حكايات «الحزن والدموع والدم» أمام مشرحة كوم الدكة
أهالى ضحايا الحادث أمام مشرحة كوم الدكة بالإسكندرية
هنا مشرحة كوم الدكة بوسط الإسكندرية، المشهد مرتبك، الدموع متحجّرة فى العيون.. الحزن يكسو الوجوه، المكان تحول بين عشية وضحاها إلى مقصد لكل أبناء الأقاليم الباحثين عن ذويهم المفقودين فى حادث تصادم قطارى الإسكندرية بعد أن استقبلت المشرحة 41 من جثامين الضحايا ينتمون إلى 6 محافظات، هى القاهرة والإسكندرية والجيزة والشرقية والإسماعيلية والدقهلية.. هؤلاء جمعهم الحزن والألم أمام المشرحة، كما تجمعت دماء ذويهم على قضبان السكة الحديد.
«الوطن» قضت ليلة حزينة أمام المشرحة، الكل يحاول تجاوز أحزانه مؤقتاً، وينتظر الحصول على تصريح بالدفن وتسلّم جثمان من يخصه، حتى يتوجّه به إلى مسقط رأسه.. العويل والصراخ والنحيب مزق سكون الليل الحزين فى محيط المشرحة بعد أن تجمع أهالى الضحايا حول البوابات الحديدية الضخمة للمشرحة.. حالة التعب التى تعرّض لها الجميع منذ أن وقع الحادث وانتقلوا من محافظاتهم إلى موقع الحادث ثم إلى المستشفيات للبحث عن ذويهم، نالت من الجميع، واستسلم الجميع للجلوس من أجل استعادة قواهم مرة أخرى حتى يتمكنوا من الانطلاق مجدداً إلى بلدتهم بعد الحصول على تصريح الدفن.
«أم عبدالرحمن»: «مارضيش ييجى معايا أتاريه كان عارف ومستنى قدره وأنا ماعرفش».. وشقيقته: «اسألوا القضبان مين السبب»
فى زاوية غابت عنها الأضواء وسيطر عليها الظلام وأمام البوابة الداخلية للمشرحة، جلست سيدة خمسينية اتشحت بالسوداء، وبين يديها تحمل صورة شاب فقدته فى الحادث، مكتفية بالنظر إلى الصورة تارة وترديد مجموعة من الكلمات بنبرة حزينة، حسرة على فقدانه.. «يا حبيبى يا ولدى.. ياللى كنت شايل كتير فى قلبك وأنا ماعرفش يا ولدى».. «ياللى شيلت عمر فوق عمرك يا ولدى.. كنت عايزة أفرح بيك وأجوزك يا ولدى».. جمل قصيرة بصوت مكلوم، لكن صداها كان قوياً ومؤثراً فى نفوس كل من سمعها. شرعت السيدة الخمسينية فى سرد قصتها الأخيرة مع ولدها «عبدالرحمن جابر»، حيث كانا معاً يعيشان فى محافظة الشرقية قبل شهرين، عندما قررا أن ينتقلا للعيش فى محافظة الإسكندرية، بعد مشكلات عديدة بينها وبين زوجها أدت إلى انفصالهما، ليعدها الابن برعايتها بعيداً عن الأزمات، إلا أن القدر كان واقفاً له بالمرصاد، عندما قررا أن يعودا إلى محافظة الشرقية فى زيارة سريعة: «ركّبنى القطر الليلة اللى قبليها على طول، علشان آجى أنا واخواته البنات فى الطراوة، وقال لنا إنه هيجى فى قطر تانى يوم، بس ماجاش يا ضنايا».
تعالى صوتها بالبكاء بعد أن استعادت الذكريات مع ابنها وحكت آخر حديث دار بينها وبين ولدها قبل أن يتحرك بها القطار، ترجّته أن يركب معها ولا ينتظر إلى اليوم التالى، إلا أن أموراً كان يريد أن ينجزها «عبدالرحمن» منعته من الذهاب معها: «مارضيش ييجى معايا حتى لما اتحايلت عليه، أتارى هو كان عارف ومستنى قدره وأنا ماعرفش، قلبى كان مقبوض، هكذا قضيت ليلتى الأولى من دونه، واستيقظت مبكراً فى صباح اليوم التالى، فى انتظار قدومه، إلى أن جاءنى اتصال هاتفى من واحدة جارتى اتصلت عليا وقالت لى ابنك وصل ولا ماوصلش علشان فيه حادثة قطر فى إسكندرية، واطلعى دورى عليه». وضعت المرأة وجهها الأسمر بين يديها واحتضنت صورة ابنها، مجهشة بالبكاء قبل أن تقول: «ابنى كان أدب الدنيا كلها فيه، وعمره حتى ما شرب سيجارة، وطول حياته كان شايل همى وشايل فوق طاقته، وبيجرى عليا أنا واخواته الولايا».
«أسامة»: «صديقى نصيبه إنه يكون فى القطر ده بس مفيش حاجة نقدر نعملها غير إننا نقول ربنا يرحمه»
أطراف الحديث التقطتها شقيقة «عبدالرحمن»، الجالسة بجوار أمها، وقالت بنبرة امتزجت بالصراخ والبكاء: «روحوا عدّوا الجثث، واسألوا القضبان اللى دخلت فى بعض، اسألوا عامل التحويلة وقولوا له كان فين ساعتها، علشان يخلى القطرين يدخلوا فى بعض، ويشوفوا الأهالى اللى قلوبها اتكوت على عيالها، قوموا شوفوا فى المشرحة كام واحد ريحته طالعة دلوقتى، الناس هتاخد عيالها وهتعيط كام ساعة وخلاص والحوادث دى مش هتقف، وكام حادثة حصلت وكام جدع راح فى حوادث كتير، روحوا اسألوا الناس دى القطرا دخلت فى بعضها إزاى»، حالة انفعال شديد ظهرت جلية على الشابة الثلاثينية فى حديثها، وظلت عليها إلى أن جاءها أحد أقاربهم، فقامت مسرعة من مكانها واحتضنته طالبة منه رؤية أخيها، ليؤكد لها أنه سيأخذهم إليه قبل أن يطلب منها وأمها عدم الصراخ بالداخل، فكانت الموافقة حاضرة بلا تفكير، وما هى إلا خطوات بسيطة حتى تواروا جميعاً داخل بوابة غرفة التغسيل.
خارج المشرحة لم يختلف الوضع كثيراً عن الداخل، فتوافد الأسر مستمر رغم أن الليل انتصف، ومن مركز «ديرب نجم» التابع لمحافظة الشرقية، جاء الأربعينى «نصر هلال»، يبحث مع من جاءوا معه عن أقاربهم ممن كانوا فى القطار، حيث كان عمه وابن شقيقه قد استقلا القطار متجهين إلى محافظة الإسكندرية لحضور عرس أحد أقاربهم، إلا أن ملامح الفرحة التى كانت تكسو الوجوه صباح هذا اليوم، تبدّلت فى آخره إلى حزن قلب حال الأسرة رأساً على عقب، بعد أن علموا بوقوع الحادث متأخراً عن طريق مكالمة هاتفية من مجهول: «كان تقريباً الساعة 5 العصر، لقيت تليفون عمى بيتصل عليا، ولما فتحت لقيت واحد غريب بيكلمنى بيقول لى إن فيه حادثة قطر، وإنه لقى التليفون ده على الأرض، وإن فيه ناس ماتت».
4 ساعات كاملة استغرقها الطريق من «ديرب نجم» بالشرقية إلى موقع الحادث، وبعد محاولات البحث، وجد «نصر» عمه فى مستشفى «رأس التين» ميتاً، وبعد رحلة من التعب والبحث عن الفقيد الثانى، اهتدوا إلى مكانه فى مشرحة «كوم الدكة»، وضاع أملهم فى العثور على أى أحياء من أقاربهم، وقسم أفراد الأسرة أنفسهم بين المستشفى والمشرحة، فى انتظار انتهاء الإجراءات، وبالاقتراب منه أجهش «نصر» بالبكاء، وبصوت متقطع، قال: «أنا عندى إحساس أليم مايتوصفش، بس لا راد لقضاء الله».
وفى ركن آخر من أركان المشرحة، وقف شاب فى بدايات العقد الثالث، ارتسمت على وجهه آثار الصدمة التى لم يستوعبها بعد، حيث فقد أحد أصدقائه فى الحادث، بعد أن كان فى انتظاره: «كان كل فترة بيجى هنا يزور اخواته علشان بيدرسوا، وماكنتش متخيل أن دى تبقى النهاية بالنسبة ليه»، مكالمة هاتفية جمعت بين «أسامة» وصديقه الذى لقى حتفه، قبل وقوع الحادث بساعة واحدة فقط، اطمأن فيها عليه وعلم بقرب قدومه، فاستعد لملاقاته عند وصوله، إلا أنه لم يتوقع أن يستقبله جثة هامدة: «جيت أتصل عليه تانى لاقيت التليفون اتقفل، فقلقت»، مسافة قصيرة هى التى تفصل بين مسكن «أسامة» وموقع الحادث، جعلته يكون من أوائل الحاضرين إلى الموقع عندما علم بوقوع حادث: «فى وقتها على طول أخدنا بعضنا وجرينا على مكان الحادثة، واتعرفنا عليه هناك، وكانت الجثث كتير جداً، وبعد كده الإسعاف أخدته ومشيت وماعرفناش راحت بيه فين، لحد ما لاقيناه فى المشرحة». واختتم الشاب حديثه بنبرة حزينة قائلاً: «نصيبه إنه يكون فى القطر ده، مفيش حاجة نقدر نعملها غير إننا نقول ربنا يرحمه».
جالساً القرفصاء وسانداً ظهره المحنى على جدران المشرحة سمعها الحاج عتمان فى راديو ترانزيستور صغير الحجم، أثناء قضاء ليلته أمام المشرحة، قبل أن يغلق المذياع ويعلق «عيالنا اللى ماتوا خلاص بقوا مجرد رقم بيتقال فى نشرات الأخبار»، ثم قطعت كلماته حالة بكاء هستيرى، ورفض الحديث مع أى شخص، واكتفى بالانزواء فى مكان مظلم بالمشرحة، منتظراً جثمان الفقيد.