رحلة الشهد والدموع.. "الوطن" داخل ميكروباص "الأسطى رانيا": "ربنا عوضني عشان عيالي"
رانيا: هاحط صورة السيسي في العربية.. ووالدتها: "وسطي اتقطم من السواقة"
الأسطى رانيا مع أبنائها داخل الميكروباص
سيارة ميكروباص قديمة، نال منها الزمن، اتخذت من رصيف أحد شوارع منطقة المقطم صاحبًا وارتكنت إليه، في مقدمتها حقيبة نسائية بجوار برطمان معلق في عجلة القيادة لوضع النقود المعدنية، ومن خلفها تجلس سيدة تضع خدها على يدها اليمنى، فيما تخرج اليسرى من نافذة السيارة، للوهلة الأولى تظنها حزينة على حالها، وما إن تقترب منها تجد أن هذا الصمت خلفه ذهول من فرط الفرحة وانفجار من السعادة، بعد أن حصلت تلك السيدة لتوها على سيارة ميكروباص هدية.
لم تتخيل السائقة رانا محمد السيد، الشهيرة برانيا القاضي، أن يتحقق حلمها بين ليلة وضحاها، كثيرًا ما ظهرت في التليفزيون وعلى أغلفة الصحف، كونها حالة فريدة لسيدة تعمل سائقة ميكروباص، ولكن ذلك لم يمكنها من إيصال صوتها الذي نادت بأعلى ما فيه مطالبة بسيارة جديدة، تقيها مساوئ الطريق وتوفر لها حياة كريمة، وبالأمس نادى الحظ على "رانيا" وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة تلك الليلة.
في برنامج "التاسعة" على التليفزيون المصري، ظهرت "رانيا" كنموذج للسيدات المكافحات، قبل أن تقول أمنيتها، باستبدال سيارتها القديمة بأخرى حديثة، والتي كانت بمثابة مسح للمصباح السحري لتتحقق الأحلام، على حد قولها، ويقرر الرئيس السيسي تخصيص ميكروباص لها، من خلال جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة، بشروط ميسرة جدًا لتقسيطها، حتى تستطيع العمل والإنتاج أكثر وأكثر، بعد مشاهدته مشكلتها.
رانيا: بشتغل مع والدتي على الميكروباص.. وبجيب رزق ولادي
16 عاما من حياة رانيا أو "عفريتة الأسفلت" كما تُلقب، قضتها كسائقة ميكروباص، تبدأ يومها في الـ12 ظهرًا، بعد أن توصل أبناءها الثلاثة إلى المدارس والحضانة، وهو ما عبرت عنه السائقة وهي تلملم أطراف "إسدال الصلاة" الذي اشترته خصيصًا لمقابلة الضيوف والمهنيين، لتعتدل في جلستها وتوضح لـ"الوطن": "بشتغل مع والدتي هي وردية وأنا وردية، بجهز الغدا وأروح أستلم الميكروباص من أمي، وأعمل 5 أدوار بيه وأروح لعيالي".
تروي صاحبة الـ34 عامًا، رحلة الشقاء التي عاشتها بعد أن انفصل والدها عن أمها وهي لم تتخطَ الـ40 يومًا، ما جعلها "تشيل الهم بدري"، على حد قولها، "أنا سواقة بريمو ومعايا رخصة تانية، بس الزمن مبيرحمش، والناس بتتريق على عربيتي عشان موديل 95، لما بتجيلي رحلة أو فرح ويشوفوا العربية بيقولولي عربيتك (كنبة)".
عفريتة الأسفلت: ياما نمت على الأرصفة وفي الورش عشان الرزق
ثلاثة أبناء تعكف خريجة كلية الحقوق على تربيتهم، هم رقية وبدر ونور بالترتيب، ولسوء الحظ يعاني الفتى الأوسط من ضمور في المخ، ما يجعلها تعمل دون كلل لتوفير علاجه، وفقًا لما عبرت عنه "القاضي" وهي تضم "بدر" إلى حضنها، "مليش معاش أنا وأمي، والغلبان ده لو مشتغلتش مش هيلاقي يتعالج، ولاد الحلال بيقفوا جنبي، بس أنا مبرتاحش ولا بهدا، وياما نمت على الأرصفة وفي الورش، عشان أصلح عربيتي وأجيب أكل عيالي، عشان معنديش أخ ولا عم يساعدني".
كراسٍ متهالكة يمكنك رؤية ما بداخلها من إسفنج بسهولة، تجلس عليها "رانيا"، بكل فخر ومن حولها أبناؤها، "ياما العربية قطعت بنطلونات ناس وبلوزات بنات عشان قديمة"، قبل أن تقفز "نور" الصغيرة وتقطع حديث الأم متسائلة: "فين العربية الجديدة اللي قولتيلي عليها"، فتبتسم السائقة وتجيب هتيجي يوم الحد إن شاء الله"، ثم تقطع وعدًا حال استلام السيارة، "عيد ميلادها 26 مارس وأنا وعدتها هعمله ليها في العربية الجديدة".
سائقة الميكروباص: هبيع العربية القديمة وأشيل فلوسها لأولادي من بعدي
حياة دراماتيكية عاشتها الأسطى رانيا شهد عليها خط "المقطم السيدة عيشة"، مسار رانيا اليومي، والذي تحفظه عن ظهر قلب، بعد أن اشترت الميكروباص من زمن بالأموال التي ربحتها من تجارة الـ"شنط البلاستيك"، "لما أستلم الميكروباص الجديد هبيع ده وأحط فلوسها في البنك عشان لو جرالي حاجة عيالي ميحتاجوش لحد".
رانيا: لما عرفت المفاجأة كنت زي المجنونة وقبلت إيد أمي
الدموع بدأت في مغازلة عيني السيدة المطلقة، وهي تروي اللحظة التي علمت فيها بهدية الرئيس لها، والتي ارتمت فيها على يد والدتها لتقبلها، اعترافًا منها بفضلها عليها، "لحد اللحظة دي مش مصدقة اللي حصل، أنا كنت عاملة زي المجنونة من الفرحة، وأول حاجة عملتها بوست إيد أمي وهي فضلت تعيط".
في اللحظة ذاتها التي تروي فيها الفتاة شعورها إثر المفاجأة، دخلت "أم رانيا" إلى المشهد بوجه باسم راضِ، فما كان من الابنة إلا أن تنزل من الميكروباص لتقبل يد والدتها وسط الشارع، لتجسد المشهد الذي كانت ترويه منذ بضع ثوانٍ، "أنا فرحانة عشان أمي اللي مقدرتش أعملها حجة أو عمرة.. الريس حققلي أمنيتي وعوضني عن أبويا اللي اتحرمت منه".
أم رانيا عن مأساتها مع القيادة: الناس مش بيساعدوني
بوجه أتعبه شقاء الأيام، وصوت خشن اعتاد على التعامل مع الرجال، تروي أم رانيا صاحبة الـ65 عاما، مأساتها اليومية مع السيارة القديمة التي كثيرًا ما تعطل لتبدأ فقرة التعذيب المعتادة، "الناس بتشوفني عطلانة بالعربية ومبيرضوش يزقوني بيضحكوا عليا ويمشوا، ولما باجي أنزل من الميكروباص بنادي على حد ياخد بإيدي ينزلني عشان وسطي بيتقطم من القعدة".
جيران وزملاء رانيا في المهنة هنوها على طريقتهم الخاصة، مازحين: "مبروك يا رانيا هتغيري الكنبة"، لترد عليهم التحية "ابقوا تعالوا أخدكوا لفة"، وبعدها رمقت الميكروباص بنظرة شخص إلى حبيب سيفتقده، "أول حاجة هعملها هحط صورة السيسي في العربية الجديدة، عشان رجعلي ابتسامتي من تاني بعد ما راحت من الهم اللي شيلته بدري".