اليوم نحكى قصة شهيرة ربما لم تأخذ حظها فى روايات التاريخ المتشعبة.. إنها فجر الخصومة الذى رفضه حتى الأعداء.. والدرس الذى لقنه المظلوم للظالم الخائن دون أن يحرك ساكناً من مكانه..
فى وقت كانت الأمة الإسلامية تواجه فيه عدوان الصليبية الحاقدة، وفى سنة من السنوات العجاف التى مرت بتاريخ هذه الأمة، اشتد الصراع بين حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل، وبين حاكم مصر نجم الدين أيوب، وبلغ من شدة الصراع أن تجرّأ الملك الصالح، فطلب المعونة ضد نجم الدين أيوب، من الصليبيين، مقابل أن يعطيهم قلعتى صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بدخول دمشق، وشراء السلاح منها متى أرادوا.
وكان لا بد أن تغضب دمشق.. واتجهت أنظار الناس إلى عالمهم «عز الدين عبدالسلام»، ليُعلن باسمهم جميعاً استنكارهم خيانة حاكمهم الملك الصالح إسماعيل.
فلما كان يوم الجمعة الذى تلى اتفاق الملك الصالح إسماعيل مع الصليبيين، صعد «العز بن عبدالسلام» منبر الجامع الأموى، ثم قال:
«اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد، يعز فيه أولياؤك ويذل فيه أعداؤك، ويُعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك»، كانت تلك الخطبة بمثابة الشرارة التى انطلقت من الناس للانقلاب على الملك الصالح إسماعيل.. فما انفك المصلون يضجون بالتأمين على دعائه.
وحين علم «الصالح إسماعيل» ما قاله «العز بن عبدالسلام» أمر بعزله.. وسجنه لفترة، ومع تصاعد الاحتجاجات ضده أفرج عنه.. لكنه حدّد إقامته بألا يفارقه.. فكان يخرج معه فى كل مكان.. حتى إذا كان مرة خرج ليقابل قادة الصليبيين على أبواب دمشق.. فكان «العز» يقرأ القرآن بصوت مرتفع فى الخيمة المجاورة.. فقال لهم: «هذا أكبر شيوخ المسلمين، وقد حبسته لإنكاره على تسليمى لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته وقد جدّدت حبسه واعتقاله لأجلكم!».
لقد كان الخائن يقدم فروض الولاء والطاعة للأعداء بهذا الشيخ الجليل.. إلا أن رد الفعل كان هو المفاجأة الحقيقية..
فقد نظر إليه ملك الفرنجة باحتقار شديد.. ثم أجابه بهدوء: «لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها».
إنه رد مفحم شامل.. فلم يرضَ العدو أن يكون العالم قرباناً له أو ثمناً للخيانة.. فهو يعرف قدر العلماء جيداً.. ويدرك قيمة رأيهم!
لم يكن الصالح إسماعيل يتوقع رد الفعل بهذه الطريقة.. فانزعج انزعاجاً شديداً.. ويقال إنه أصيب بالأرق وقلة النوم حتى انتصر عليه نجم الدين أيوب بعدها، وأعاد العز بن عبدالسلام إلى المنبر مرة أخرى..
لقد كان ثمن الخيانة هو الاحتقار من العدو قبل الرعية.. إنه الأمر الذى لم يلتفت إليه الصالح إسماعيل قبلها!
لقد احترم ملوك الفرنجة العز بن عبدالسلام واحتقروا حليفهم وحفظ التاريخ اسم العز بن عبدالسلام بين صفحاته بحروف من نور.. كما لُعن الملك الصالح إسماعيل وأمثاله.. ولم يزل..