أصابتنى كلمات العائدة من الغربة بعد ربع قرن خالية الوفاض إلا من مجموعة من الصور الباهتة التى سافرت بها كزاد يعينها على مقاومة آلام البعاد عن أحضان الأحبة والأهل، وصوت أم كلثوم وحفلات عيد الربيع مع صوت عبدالحليم، والوجبات الشعبية فى الصباح قبل الانخراط فى العمل، وجلسات الأصدقاء المملوءة بالحنان، ورائحة البن العربى، وصناديق كعك العيد الورقية من أيدى الأمهات والجدات، وثمرات التمر وقصاصات أوراق العمل، والنكات المغلفة بالخجل، وظنت أنه يمكن أن تستبدلها بأخرى أجمل تسجل فيها أوقات الكفاح ومشاعر الاحتماء من ألم الغربة بالحبيب.. أقول لكم أصابتنى بآلام حقيقية حزناً على المعانى التى فقدناها جميعاً مع المبادئ الأخلاقية التى اختفت أو يمكن القول تجاوزاً كادت أن تختفى. أوجعتنى كلماتها عندما لم أجد معها شيئاً من تلك السنوات التى كانت تعتقد وتنتظر أن يكون لها عيد للحصاد وفرحة وزهوة وفخر، فقد تركت كل شىء وعادت لتبدأ من جديد، وحتى تلك اللقطات الملونة التى تحمل لحظات سعادة زائفة لم تستطع الحصول عليها فتركتها مكتفية باللقطات القديمة (الأبيض والأسود). وأعطتنى درساً فشلت سنوات عمرى كلها أن أجده أو أتعلَّمه من تجارب الحياة التى خضتها عندما قالت «تركته وعدت لأنه لم يعد يحب الحياة معى. تلك الحياة التى بدأناها معاً.. تركته عندما أفلت كف يدى من بين أصابعه رغم محاولتى التشبث به وابتعد.. تركته لأن الحب لا يستجدى ولا يشترى.. ولأننى لا أستطيع أن أعيش أسيرة للهوى». وعند كلمتها الأخيرة أدركت حجم الإهانة التى أصابتها وهى تصور نفسها أسيرة لمن لا يريد إلا الإحساس بالانتصار والامتلاك، وكأنه عائد من معركة حربية وقتها قررت أن أبحث عن تلك المعانى وعن آلام الأسر.
وإذا كنا نتحدث كثيراً فى المحافل الدولية وفى المؤتمرات التى تدعو إليها المنظمات الدولية والمدنية عن حقوق الأسرى (أسرى الحروب). فالأسير لمن لا يعرف هو الشخص الذى يتم احتجازه من قبل قوى معادية له خلال أو بعد نزاع مسلح. وعادة فإنه يتم احتجاز أسرى الحرب لمجموعة من الأسباب المشروعة وغير المشروعة كذلك. وهذه الكلمة هى مصطلح فى القانون الدولى عرفته الإنسانية قديماً فخلال الحرب العالمية الأولى استسلم نحو ثمانية ملايين رجل واحتجزوا فى معسكرات خصصت لهم، وتعهدت وقتها جميع الدول المشاركة فى الحرب بالعمل بقواعد (لاهاى) التى تنص على معاملتهم معاملة عادلة. ومن بين أوراق التاريخ العسكرى الذى يسجل جميع الحروب التى مرت بها الإنسانية نجد عدة دول اشتهرت بالمعاملة السيئة لأسرى الحروب وتأتى الدولة العثمانية على رأس تلك الدول، وكذلك ألمانيا وروسيا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى. وقد تطور القانون الدولى الإنسانى تدريجياً منذ ١٨٦٣ وتضمنت بنوده حقوق أسير الحرب مثل محاكمته وعدم تعرضه للتعذيب وتلقى العلاج الطبى الكامل والاستعانة بمنظمة الصليب الأحمر الدولية لمراقبة الحالة الصحية للأسير والاتصال بأقاربه وغيرها من الحقوق. وإذا بحثنا أكثر فسنجد أن هناك العديد من الكتب تتحدث عن أسرى الحرب، من ضمنها (هروب الأميرة بات) للكندى چورچ بيرسون، الذى وصف كتابه الأوضاع السيئة فى ألمانيا ومعاملة الأسرى هناك.
ويرمز فى اللغة الإنجليزية لأسير الحرب بـ(POW) وهى اختصار لـPrisoner of war. أما فى معجم المعانى العربى فيعرف الأسير بأنه اسم جمعه: أسرى، وفعله: أسر يأسر أسراً، والمفعول به: مأسور، ويوضح أكثر المعجم أن أسر الجندى أى قبض عليه وأخذه أسيراً فى الحرب وليس بعد الإسار إلا القتل.
ونأتى إلى النوع الآخر من الأسر الذى يطلق على من يتعرض له بأنه (أسير الهوى) وإذا تحدثنا عنه فلا بد أن نقول إنه ذلك الذى يأسر لبه الحبيب أى ينال إعجابه ويجد نفسه وقد أصبح كأسير الحرب لا يملك حيلة الخروج مما هو فيه إلا بالمساعى التى تبذلها المنظمات الدولية. وإذا كانت منظمة الصليب الأحمر تأخذ على عاتقها رعاية أسرى الحروب فإننا ندعو لتأسيس (منظمة الجورى الأحمر الدولية) لرعاية أسرى الهوى ومنحهم الحق فى الحياة الآمنة ومساواتهم فى الحقوق بأسرى الحروب، حتى لا تزداد معاناتهم ويأتى يوم يتحدث فيه التاريخ عن أننا كنا على رأس الدول التى عذبت أسراها ولم تمنحهم حريتهم ولم تحافظ على إنسانيتهم ولم تعالجهم من جروح الهوى.. حفظكم الله أحبتى وأصدقائى من أحزان وآلام الأسر بكل أنواعه.