42 يوماً مضت على بدء عملية «طوفان الكرامة» لتحرير «طرابلس» من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، ولم تبد بوادر لاقتراب الحسم العسكرى، الجيش أطلق المرحلة الثانية 6 مايو، بمشاركة تشكيلات من مدن المنطقة الغربية التابعة لقيادة الجيش، وأشار لوجود مرحلة ثالثة، وهذا متوقع، فهى معركة لتحرير العاصمة، يشنها جيش وطنى، حريص على المدنيين «مليون و150 ألف نسمة»، وعلى المنشآت والمرافق الحيوية.. «عملية الكرامة» لتحرير بنغازى امتدت لأكثر من ثلاث سنوات، لكن الأمر يتعلق هنا بالعاصمة، حيث الظروف الدولية والإقليمية قد لا تحتمل ذلك، وطبيعة توازن القوى على الأرض تنعكس على حجم الضغوط والتدخلات الدولية، التى ربما لا تتفق ومصالحنا.. عامل الزمن فى معركة طرابلس عنصر حيوى لكسبها.
حكومة «السراج» وزعت منحة «2 مليار و484 مليون دينار» على الميليشيات لمواجهة الجيش، وسمحت بمشاركة عناصر التنظيمات التكفيرية فى المعارك «داعش، القاعدة، أنصار الشريعة، والجماعة الليبية المقاتلة»، وجرحاهم سُمِح لهم بالعلاج فى المستشفى الميدانى الإيطالى بمصراتة.. «داعش» رصدت مؤشرات لاحتمال توجه الجيش نحو سرت، معقل ولايتها القديمة، فكثفت نشاطها لزعزعة جبهته الخلفية وتشتيت جهوده، اعتماداً على خلاياها المنتشرة بصحراء الجنوب.. هاجمت معسكراً للتدريب فى سبها 4 مايو، ثم اجتاحت بلدة «غدوة» 60 كم جنوب المدينة، إضافة لمشاركتها فى معارك طرابلس، بجانب ميليشيا «النواصى»، التابعة لعبدالحكيم بالحاج، بموافقة مباشرة من فتحى باشاغا، وزير الداخلية.. الميليشيات لم تتردد فى الاعتماد على اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين كدروع بشرية أو كمقاتلين، صحيفة الجارديان البريطانية كشفت أن الحرب تعرِّض حياة قرابة 3500 لاجئ ومهاجر غير شرعى للخطر، نتيجة لوجود ثلاثة من مراكز الاحتجاز بقطاع طرابلس، وأكدت أن الميليشيات أجبرت أعداداً منهم على حمل السلاح، والمشاركة فى المعارك.. منظمة «هيومان رايتس ووتش» وصفت ذلك بأنه يشكل جريمة حرب.
والأخطر، استعانة «السراج» بالمرتزقة الأجانب لتشغيل منظومات الطيران والدفاع الجوى والاتصالات.. سقوط الطائرة الميراج F1 بقيادة طيار برتغالى، جندته المخابرات القطرية لحساب حكومة «السراج»، جريمة حرب دولية، لم تأخذ حقها من التناول السياسى والقانونى والجنائى والإعلامى.. إيطاليا زودت كلية مصراتة الجوية بأنظمة دفاع جوى متطورة، لحماية قرابة 1200 خبير وجندى إيطالى، وخبراء بريطانيون يتولون إدارة المعارك، لحساب «السراج».. وتركيا تتحايل على المراقبة الجوية والبحرية المفروضة على السواحل الليبية، بدفع قوارب صغيرة محملة بالأسلحة والعتاد، عن طريق مالطة، إلى ميناء مصراتة، أما مقاتلو جيش النصرة السابقون فى سوريا، فيتم دفعهم من خلال رحلات جوية مباشرة، أو عن طريق دول الجوار الليبى، ثم التسلل عبر الحدود البرية.
إيران دخلت على خط دعم الميليشيات الليبية، لحساب تركيا والإخوان.. السفينة «شهر كورد»، التابعة لشركة خطوط الشحن الإيرانية الحكومية IRSL، أدرجتها الولايات المتحدة وأوروبا على قائمة العقوبات، بسبب علاقتها بأنشطة الحرس الثورى المشبوهة بالمنطقة.. دخلت ميناء مصراتة، قادمة من شرق أوروبا، وقامت بتفريغ 100 حاوية، داخلها 20.000 صاروخ.. الجيش الليبى كشف المعلومات المتعلقة بها وبحمولتها.. مكتب النائب العام بطرابلس، الصديق الصور، التابع لحكومة «السراج»، أعلن حجزها داخل الميناء، لحين التأكد من إدراجها على قائمة العقوبات من عدمه، ولكن محمد سعيدى، رئيس شركة الملاحة البحرية الإيرانية، نفى نبأ احتجاز السفينة، وأكد تسوية الخلاف سياسياً مع حكومة «السراج»!!.
«السراج» حاول حشد الموقف الأوروبى لمعادلة الانحياز السياسى الأمريكى للجيش.. أنهى جولته الأوروبية 9 مايو، استقبله فى روما جوزيبّى كونتى، رئيس الوزراء، وفى برلين المستشارة أنجيلا ميركل، وفى باريس الرئيس إيمانويل ماكرون، وفى لندن تريزا ماى، رئيسة الوزراء.. مستوى رفيع من الاستقبال، لكن افتضاح علاقة حكومته بالميليشيات والتنظيمات الإرهابية حال دون التزامهم بدعمه، وتمسكوا بضرورة العودة للتسوية السياسية، دون تلبية مطلبه بعودة الجيش لأوضاع ما قبل 4 أبريل الماضى، تاريخ بدء عملية طرابلس.. فور عودته للعاصمة قام بتعليق عملیات 40 شركة أجنبیة، بینها شركة النفط الفرنسیة «توتال»، ومجموعة «الكاتيل وتاليس وبروجيه» الفرنسية العملاقة، وأوقف التعامل مع شركة «سيمنس» الألمانية الرائدة فى قطاع الكهرباء، والمشرفة على غالبية مشاريع الطاقة، إضافة لشركة إيطالية واحدة هى «بوتشيللى» للنفط.. هذه الإجراءات تعكس الفشل الذريع للجولة، ما يبرر اتخاذه إجراءات عقابية ضد فرنسا، تضاف لقراره بوقف التعاون الأمنى معها.. وإجراءات أخرى مشابهة ضد ألمانيا.. وثالثة تحذيرية لإيطاليا، خاصة بعد إعلانها قرب استقبال «حفتر».
الجيش الليبى حقق تقدماً استراتيجياً، تمثل فى دخول أربع مدن رئيسية، تمثل القوس الذى يطوق العاصمة، وهى صبراتة وصرمان وغريان وترهونة.. وتوغل فى بعض الضواحى الجنوبية لطرابلس، دون اختراق للطوق الدفاعى حول مركز العاصمة، الذى يضم المقرات السيادية، والتى تتمركز حولها كتائب الميليشيات بكثافة.. لكن الجيش يحارب دون ظهير سياسى أو إعلامى يدعمه على المستوى الدولى، ويعكس الواجهة السياسية والشعبية المؤيدة له فى الداخل.. لقد آن الأوان لشن حملة دبلوماسية واسعة بمعرفة ممثلى البرلمان الليبى، مدعومين بعناصر من خارجية الحكومة المؤقتة.. كما آن الأوان لمراجعة الخطاب الإعلامى الذى ما زال يُطلق وصف حكومة «الوفاق» على حكومة «السراج»، وهى التسمية التى كانت جزءاً من «خلطة ليون»، المبعوث الدولى الماكر، لتحسين الصورة الدولية لحكومة تدعمها الميليشيات.. هذه الحكومة لم تحظ بموافقة البرلمان، فسقطت مشروعيتها، واستقال على القطرانى وموسى الكونى من المجلس الرئاسى ففقدت شرط الإجماع والتمثيل السكانى والجغرافى لليبيين، الوارد باتفاق الصخيرات.. وأصبحت خاضعة لمصراتة.. أحمد معيتيق، نائب المجلس الرئاسى، فتحى باشاغا، وزير الداخلية، سالم جحا، نائب رئيس الأركان، الصديق الكبير، مدير المصرف المركزى، وعبدالرحمن السويحلى، رئيس المجلس الأعلى للدولة السابق، ومديرو المؤسسة الوطنية للنفط، وشركة النهر الصناعى العظيم، ووزراء الثقافة والعمل والكهرباء.. استئثار بالسلطة فرضه امتلاك مصراتة للميليشيات المسلحة المساندة لـ«السراج».
أخيراً، فإن المكاسب السياسية والعسكرية التى حققتها عملية طرابلس ينبغى استثمارها.. قيادة الجيش الليبى هى الأقدر على الاختيار بين بديلين: الأول قبول وقف إطلاق النار، لالتقاط الأنفاس، شريطة تثبيت خطوط القتال الراهنة، لإتاحة الفرصة لتفعيل نتائج منع الإمدادات العسكرية والوقود للعاصمة، وانعكاساته على الروح المعنوية للميليشيات، ودرجة تماسكها، والعودة للحوار بمعطيات جديدة، فرضتها التغيرات الميدانية.. أو البديل الثانى وهو الاستمرار فى العملية العسكرية حتى تبلغ منتهاها!.