منظمة «الذئاب الرمادية» التركية تناولنا فى المقال السابق التعريف بها وإلقاء الضوء على تاريخ ومراحل إنشائها وظهورها على مسرح الأحداث بداخل تركيا، مع الإشارة إلى معتقدات مؤسسيها الأوائل من جنوح كامل للتطرف والتعصب، حيث اعتبرت نفسها، كمعظم الحركات الفاشية، هى المدافع الأول والأوحد عن «القومية التركية». وهى، وفق تلك المفاهيم، تمثل انحرافاً فكرياً بدأ من عقيدة التأسيس، ولم يتوقف عن التمدد فى داخل دولة تركيا، وأيضاً على سبيل الاستخدام من قوى خارجية وجدت لها مصالح فى اختراق هذه المنظمة وتسخير جهدها فى اتجاهات عدة، منها ما أشرنا إليه سلفاً مما قامت به وكالة الاستخبارات الأمريكية، فقد وثّقت بدء التعامل مع المنظمة فى العام 1948، داخل وثائقها عن تلك الفترة فى حربها ضد الاتحاد السوفيتى.
«ألب أرسلان توركيش» الضابط التركى ذو النزعة المتطرفة، المتشرب لأفكار التفوق العرقى للقومية التركية مما دفعه لتأسيس وإنشاء تلك المنظمة، هو الذى بدأ استخدامه مبكراً من قبَل المخابرات الأمريكية، قبل أن تساهم الأخيرة فى تثبيت أقدامه بشكل كبير داخل الجيش التركى بداية، ولاحقاً على ساحة الحياة السياسية. وفى الوقت الذى كان فيه توركيش يخدم فى واشنطن ضمن قوات «حلف الناتو» ما بين عامَى 1955 و1958، كان «عدنان مندريس» يتولى منصب رئاسة الوزراء ممثلاً عن «الحزب الديمقراطى» الذى نجح فى الفوز بانتخابات عام 1950 بعد جولة الإخفاق التى مُنى بها عام 1946. جولة الإخفاق تلك لم يكن حينها قد مضى عام واحد عن انشقاق مندريس عن حزب «الشعب الجمهورى» الذى أسسه كمال أتاتورك ووضع من الإجراءات ما يحول دون تشكيل أحزاب أخرى. لكن «عدنان مندريس» نجح فى تجاوزها وخاض الانتخابات على أساس حزمة من الوعود تصحح ما كان يجرى فى السابق، منها تخفيف الإجراءات العلمانية الصارمة وإعطاء المزيد من حرية الاعتقاد والديمقراطية.
شهدت سنوات حكم «عدنان مندريس» الكثير من حالات الفوضى الاقتصادية والمالية بعد تبنيه عديداً من الإجراءات الليبرالية فى قطاعَى الصناعة والزراعة، لم يكن المجتمع التركى جاهزاً لها بالقدر الذى يمكّنه من بناء حالة من الاستقرار بين الشرائح الرئيسية للمجتمع. وعلى خلفية الاضطرابات المتتالية التى سادت الأعوام الأخيرة من حكم مندريس، نفذ الجيش أول انقلاب عسكرى فى تاريخ الجمهورية التركية صباح يوم 27 مايو 1960، فبينما كان مندريس يقوم بجولة فى ولاية «كوتاهيه»، اعتقله الجيش مع رئيس الجمهورية «جلالا بايار» وعدد من الوزراء، لتجرى لهم محاكمة سريعة صورية، وتصدر حكماً بسجن رئيس الجمهورية مدى الحياة، وإعدام عدنان مندريس مع وزيرَى الخارجية والمالية بتهمة قلب النظام العلمانى وتأسيس دولة دينية، وإلحاقاً بالحكم أحيل (235 جنرالاً وخمسة آلاف ضابط) إلى التقاعد، بينهم رئيس هيئة الأركان.
خلال هذه الأحداث المتلاحقة كان الجيش التركى يتحرك بأوامر (38 ضابطاً) برئاسة الجنرال «جمال جورسيل»، الذى تولى رئاسة الجمهورية لاحقاً بعد نجاح الانقلاب. لم يشفع لمندريس كونه قدّم للغرب وللولايات المتحدة خاصة كافة أوراق الاعتماد، باعتباره حليفاً مخلصاً على استعداد تام للانخراط بقوة فى محاربة الشيوعية، ففضلاً عن انضمامه السريع لحلف شمال الأطلنطى من أجل المشاركة فى الحرب الكورية، كان من المؤيدين بقوة لـ«حلف بغداد»، وقدّم نفسه باعتبار أن تركيا فى عهده يمكن أن تمثل رأس حربة فى مواجهة حركة «القومية العربية» الصاعدة آنذاك بزعامة جمال عبدالناصر. واللافت أيضاً أنه بعد خمسة أسابيع فقط من توليه الحكم سجّل «عدنان مندريس» على نفسه أنه وراء تدشين التحالف المبكر مع إسرائيل عندما أرسل لها أول سفير تركى بشكل رسمى فى 3 يوليو 1950.
لم تكن منظمة «الذئاب الرمادية» ولا «ألب أرسلان توركيش» بعيدين عن تلك الأحداث، حيث كان حضورهم أقرب مما توقعه الأتراك أنفسهم، فالضابط توركيش كان ضمن مجموعة الـ(38 ضابطاً) الذين قادوا الانقلاب وقاموا بتحريك الأحداث فيما بعد، وصولاً لإعدام مندريس ووزرائه والإطاحة بهذا العدد الكبير من المسئولين والعسكريين على حد سواء. ولاحقاً ذكر العديد من المؤرخين الأتراك أنه فى مرحلة إعادة الاعتبار لـ«عدنان مندريس» تكشفت أدوار عدة لعبها عناصر من القوميين المتطرفين فى إشعال الاضطرابات التى شهدتها إسطنبول تمهيداً للإطاحة بمندريس. وهناك من وضع على كاهل هؤلاء القيام بالمذابح التى وقعت أيضاً فى هذه المراحل التمهيدية ضد أصحاب الجنسيات اليونانية والأرمن والأكراد وتسببت فى تهجير الآلاف منهم خارج تركيا. هؤلاء ممن قادوا تلك العمليات العنصرية المتطرفة جرى ضمهم لاحقاً كقيادات لمنظمة «الذئاب الرمادية» التى صارت بمثابة الذراع المسلحة لحزب «الحركة القومية» الذى ترأسه الضابط توركيش. وقد حاول الأخير مع مجموعة من الضباط استثمار الانقلاب فى تعزيز رؤيته المتطرفة لتركيا القومية، دافعاً باتجاه إقامة نظام استبدادى صارم يضع تلك الأهداف فى الدستور التركى كتطوير لما قام به كمال أتاتورك حتى يحمى الدولة، بحسب وجهة نظره، من الانحراف تجاه حكم متساهل. لكن مجموعة القيادة العسكرية استشعرت خطورة هذا الطرح العنصرى بالأصل تجاه الدول الغربية التى صمتت على الانقلاب لكنها لم تبدُ مرحّبة بالذهاب إلى أبعد من ذلك. ولتخفيف حدة تلك الأطروحات التى ظلت تموج بها الساحة التركية، وتجد آذاناً مصغية لدى شريحة كبيرة من الشعب التركى، جرى إبعاد مؤقت لتوركيش بتعيينه ملحقاً عسكرياً فى السفارة التركية بالهند.
بالرغم من ذلك لم يتخل «ألب أرسلان توركيش» عن معتقداته القومية المتطرفة، بل واصل اتصالاته وهو فى نيودلهى مع كافة الشرائح التى التفت حول عقيدته العنصرية، وقام بتعزيز منظمته الشبابية الوليدة، عبر إمدادها بالسلاح وتدريب عناصرها على القتال بواسطة رفاقه من الضباط المؤمنين بأفكاره، قبل أن يعود لتركيا مرة أخرى عام 1963 ليقوم بمفاجأة أخرى، يتقدم بها ويدفع معها منظمته المسلحة خطوات إلى الأمام على الساحة التركية.. نتناول تفاصيلها الأسبوع القادم بمشيئة الله.