طاجيكستان قد تكون محط الأنظار والمتابعة الدقيقة خلال الفترة القادمة، عقب الإعلان عن موافقة برلمانها نهاية أكتوبر الماضى، على قيام شكل من أشكال التعاون العسكرى يخص أمن الحدود مع الصين، دون الكشف الكامل عن طبيعته أو مداه. فوفق الرواية الطاجيكية ستمول بكين بناء موقع خارجى لـ«وحدة قوات خاصة»، تابعة لشرطة طاجيكستان قرب حدودها مع أفغانستان، على أن يكون الموقع فى إقليم «جورنو باداخشان» شرق طاجيكستان، فى منطقة «جبال بامير» الاستراتيجية التى تجمع حدود المنطقة الطاجيكية مع كل من إقليم «شينجيانج» الصينى وإقليم «باداخشان» الأفغانى. مع تأكيد تلك الرواية وعلى لسان رئيس البرلمان؛ أن هذا الموقع الجديد لن يضم قوات صينية بل سيقتصر على تأهيل ورفع كفاءة قوات نخبة أمنية، من أجل ضبط المنطقة الحدودية ومجابهة التهديدات المحتملة، بالنظر إلى المتغيرات الجديدة التى شهدتها الجارة أفغانستان.
ليس غريباً بالطبع ألا تعترف طاجيكستان بحكومة «طالبان» الجديدة، خاصة مع دعوتها إلى تمثيل أوسع للجماعات العرقية المختلفة فى أفغانستان، التى يشكل فيها «الطاجيك» ثانى أكبر الجماعات السكانية التى تتعرض لنوع من التهميش، على يد عرقية «البشتون» التى ينتمى إليها غالبية أنصار الحركة. هذا تسبب فى فصل من التصريحات الإعلامية المتبادلة بين كابول ودوشنبه، حيث حذرت الأولى النظام الطاجيكى من التدخل فى شئونها الداخلية على لسان أكثر من قيادة بالحركة، فى الوقت الذى يتداول فيه إعلام طاجيكستان طوال الوقت تفاصيل، تحالف واحتضان طالبان لمجموعات مناوئة من الطاجيك فى شمال أفغانستان، تسعى للإطاحة بحكومة إمام على رحمان الموجودة بالسلطة فى دوشنبه. على خلفية هذا المشهد المتوتر على جانبى الحدود أو غير المريح من هذا التداخل على الأقل، تبرز الرواية الأمريكية المضادة التى تتحدث عن زيارة رفيعة المستوى قام بها مسئولون صينيون يوليو الماضى إلى العاصمة دوشنبه، جرى خلالها الاتفاق على تمويل الصين لبناء قاعدة عسكرية بقيمة (10 ملايين دولار) فى منطقة تقاطع الحدود الأفغانية الصينية الطاجيكية، كما شمل الاتفاق أيضاً نقل السيطرة الكاملة على قاعدة أخرى إلى الصين، وهذه الأخيرة تقع فى منطقة «مورجان» بطاجيكستان بالقرب من الحدود الضيقة التى تشترك فيها الصين مع أفغانستان.
مركز «صوفان» الأمريكى المعنى بشئون القضايا الأمنية والجماعات المسلحة، نشر بعض التقارير حول تلك الترتيبات، خاصة أن لديه مصادر وثيقة الصلة بتلك المنطقة، التى تتبع تحركات وتفاعلات الشأن الأفغانى بتعمق يمتد إلى جوارها الجغرافى المؤثر فى أحداثها الداخلية. وهو فى هذا الصدد يربط بين هذا النقل المشار إليه وبين تمويل نشر أفراد عسكريين طاجيكيين إضافيين فى مناطق عدة على طول الحدود الأفغانية، رغم عدم إفصاح الجانبين عن عدد العسكريين الصينيين المخطط وجودهم للعمل على الأراضى الطاجيكية. إنما تظل التقديرات الأمريكية أن خطوة على هذا النحو؛ تجعل الجيش الصينى يخطط لتمركز يضعه على أهبة الاستعداد للتحرك ضد نظام طالبان، أو أى من المهددات التى قد تنشأ داخل الأراضى الأفغانية برعاية طالبان أو استغلالاً لعدم تماسكها أو قدرتها على فرض السيطرة على هذا الجوار. بكين فى تلك الخطوة تعبر عن خشيتها من الجماعات الإرهابية التى قد تفتح لها طالبان ذراعيها، بغرض إعلاء مفهوم «الجهاد» الذى يعد من العقائد الراسخة فى فكر الحركة، والذى ترى الصين أنها مهددة به على الأقل من أقلية «الإيغور» المسلمة التى يرى عديد المراقبين أن بكين تبالغ كثيراً فى تهديد الإرهاب، لتبرير إجراءات القمع التى تنتهجها بحق هذا المكون الصينى المضطهد.
وكما ترقب الولايات المتحدة التحركات الصينية فى هذه المنطقة عن كثب، لم تتأخر عن البدء فى صياغة آليات تعوضها عن الوجود الكامل لعقدين كاملين، كانت فيهما فضلاً عن التفاعل والتداخل مع الأحداث الأفغانية، ظلت توفر لها شرفة متقدمة تطل منها على تفاعلات منطقة آسيا الوسطى كاملة، بالأخص على تحركات كل من الصين وروسيا، وهو مما عدّ خصماً مؤثراً ضمن مجمل تداعيات الخروج الأمريكى من أفغانستان. لذلك دخلت واشنطن على خط تكثيف الاتصالات مع أوزبكستان وطاجيكستان وآخرين، من أجل ضمانة تسهيل الوصول السريع والفاعل لقواعد آسيا الوسطى، فهى ترى تشبيك المصالح بين بكين ودوشنبه يتجاوز المهددات القادمة من أفغانستان ليمتد إلى ترسيخ أوضاع استراتيجية لها علاقة بموازين القوى، التى لن تترك للولايات المتحدة المساحات التى ظلت تتحرك فيها لسنوات. كما يوضع فى الاعتبار محددين مهمين سيسهمان فى صياغة تلك الموازين الاستراتيجية بعيدة المدى، أولهما أن واشنطن لم تثبت لنفسها قواعد ثابتة فى منطقة آسيا الوسطى، وتظل الموجودة فى الخليج العربى بقطر والإمارات هى أقرب نقطة لهذا المسرح العملياتى، وهذا يبتعد لأكثر من 1500 ميل وضعاً فى الاعتبار أن إيران تقع فى منتصف تلك المسافة مع فرضها لحظر جوى بحق الولايات المتحدة. وهذا يلقى بعبء ضرورة إنفاذ ترتيبات واتفاقات فى أقرب فرصة، فواشنطن تجد نفسها اليوم تحت ضغط تغير محتمل بدأت إشاراته سريعاً تخرج للعلن.
ففى وقت سابق استنفرت كل من روسيا بالأخص والصين أيضاً، علاقاتهما بالجوار الجغرافى وبدول تتشارك معها فى اتفاقات مثل معاهدة الأمن الجماعى لدول الموروث التاريخى للاتحاد السوفيتى، لقطع الطريق على إمكانية الموافقة على وجود جديد لقوات أمريكية، أو منح تسهيلات على أى صورة من الصور وإلا سيفقد الخروج الأمريكى من أفغانستان الميزة الجيوستراتيجية التى منحها لروسيا والصين معاً، ويتعارض بشكل مباشر مع المصالح الاستراتيجية للدولتين اللتين تنظران اليوم لفضاء دول جوارهما المباشر، باعتباره على موعد لترتيبات جديدة تحتفظ كل من موسكو وبكين له بخططها الخاصة التى ربما تتناقض فى المستقبل القريب، لهذا ربما فصل آخر. إنما يظل اليوم هناك حالة من اليقظة لكل إشارة أو حرف يجرى التوقيع عليه أو تعهد يتم إبرامه، تحت أعين القوى الثلاث الكبرى، كى لا تتأخر أى منها عن صياغة التحرك المضاد من جانبها.