فى زمن العيون الزجاجية والصدور البلاستيك والشفاه السيليكون والنفوس الخاوية.. يغيب وجه الحقيقة فى ازدحام الأقنعة. نتحرك جميعاً مثل دمى خشبية أو كعرائس ماريونيت، لا نعرف من يحركنا أو متى نتوقف.. لكننا نعيش -وفق سيناريو شديد البلاغة- فى أكذوبة.
ندرك تماماً أنها خدعة لكننا لا نتوقف لنراجع أنفسنا أو نواجه واقعنا وكأننا فى حالة هروب جماعى من الإحساس بالألم أو احتمالات الندم! لا يمسك أحدنا بلحظة الصدق النادرة ليلقى همومه على صدر أمه ويفتش بين مسامها عن الحنان.
يكتسب من دقاته إيقاع التوازن والأمان ثم يطلق دموعه من أسرها، لا أحد يفعلها لأننا فطمنا وكبرنا ونضجنا بما يسمح لأن نكون «جزءاً من، أو طرفاً» فى تلك المسرحية العبثية التى نحياها.نترفع عن الإحساس بالضعف ونتجاوز عن كل الصغائر والسخافات.
نتعاطى مضادات الاكتئاب صباحاً ونلتزم بمواعيد المهدئات مساء، وفيما بين العقاقير نتعاطى جرعة من الشعر فى هدوء من خبر مضمون أبيات ترثى زماناً مضى.. حتى الشعر نراه بعيون مضللة ووعى مخدر ويأس من لا يزال مجبراً على الكتابة فى عالم لا يقرأ.. وإذا قرأ فقليل منه يفهم، ونادراً ما يستيقظ ضمير من أدمن المخدر، فهذا «زمان السأم» كما قال صلاح عبدالصبور: (نفخ الأراجيل سأم.. . لا عمق للألم.. لأنه كالزيت فوق صفحة السأم.. لا طعم للندم.. لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة.. ويهبط السأم.. يغسلهم من رأسهم إلى القدم).
فى مثل هذا الزمان تصبح الكتابة أيضاً كالسأم فوق صفحة الزيت لأنها فقدت قدرتها على التغيير فى عالم «بزنسة» المشاعر والأفكار والمبادئ.. عالم تحول إلى مزاد علنى، كل ما فيه ومن فيه مباح. فى هذا المزاد ربما تكون قضية «بلوجر» أهم من أطروحات الإصلاح.. هذا زمان حروف بلا نقاط لا تكتمل لتشكل جملة ولا تؤثر لتجسد رجلاً.
لكننى رغم ذلك ما زلت أكتب لأننى لم أحترف الغناء مثلاً منذ نعومة أظافرى ولم أنجب نابغة يحترف كرة القدم أو الغناء أو ربما لأننا أصبحنا شركاء -بدرجة ما- فى وهم الكتابة الجميل.حين تأتينى تعليقات الأصدقاء أجدكم معى أشعر بمصداقية الكلمة.. أشعر بالعزاء عن كل العراقيل والحروب والصراعات والصدات.
ربما ما زلت أكتب لأثبت أننى «على قيد الحياة»، أو لأننى لا أعرف خطوتى القادمة على رقعة الشطرنج التى يسمونها «حياة».. تلك التى لم أعرف قواعدها بعد.
أنتظر أن تدب الروح فى قطعها ليبرز من بينها فارس يغير مسارها أو حتى ينهيها.. لكن يبدو لى أن قطع الشطرنج لا تنبت وداً ولا تحتضن شجناً.
فدعونى أهرب من أسر الجماد وألوذ بمعطفى الإنسانى، أكتسى بحكمة العقل وأستدفئ بحرارة الدم. دعونى أنتشى بشجن يؤكد أننى على قيد الحياة، وأكتوى بحب يبدد كآبتها، وأستمد من قلبى العليل شحنة وجدانية تفلسف الألم وتصوغ نظرية لتلك الملهاة.