لم أكن واحدة من جيل أكتوبر 73 العظيم، لكننى عشت أجواء الحرب والانتصار كما لو كنت فى صفوف الضباط والمجندين الذين وقفوا على خط النار: صدورهم عارية وعزيمتهم قوية ولسانهم لا يتوقف عن قول «الله أكبر».. حرب أكتوبر كانت بالنسبة لى حدوتة جميلة يرويها والدى على مسامعى كل مساء.. يحكى لطفلته الصغيرة عن بطولة الجيش المصرى فى ساحة المعركة كيف وقف صامداً وكيف راوغ العدو وانتصر وكيف استرد الأرض والعرض وداوى جراح المنكسرين بهزيمة 67.
واليوم ومع مرور 50 عاماً على حرب أكتوبر المجيدة وجدتنى أمسك قلمى لأكتب عنها من وحى حكاياتى القديمة لأقدم كل التحية لأبطالنا الأبرار وعلى رأسهم «أبى». فإذا كان لديك قدوة ومثل أعلى فى حياتك فأنت لديك حافز دائم يمنحك طاقة كافية ودعماً لاستكمال مسيرة حياتك، وإذا كانت تلك القدوة هى الأب البطل الأول فى حياة أبنائه أصبح لديك مزيد من الثقة، فما بالك أن يكون هذا الأب هو من أبطال حرب أكتوبر الذين دافعوا عن الأرض وخاضوا معركة من أجل التحرير واستعادة الحق، وبكل الفخر أقولها: «أنا بنت البطل».
انا ابنة كبرى للعميد رشوان عبدالعزيز على سالم، خريج الدفعة 65 مشاة حربية - دفعة الأتربى - عام 1969، شارك أبى فى معركة الثغرة، وعاش أوقاتاً عصيبة، كانوا يتعرضون فيها للموت كل لحظة إثر سقوط قذيفة أو صاروخ أو انفجار طائرة، وقف أبى فى ساحة المعركة محارباً شجاعاً أمام العدو، لكنه كان يبكى بالدموع وهو يجمع أشلاء زملائه الشهداء فيكفن يداً ويدفن قدماً تحت التراب، وسط الضرب العشوائى الذى لا ينقطع وهو لا يعرف من أين سيأتيه الموت.
حكى لى أبى البطل كيف كان طيران العدو فوقهم والقذائف تمطرهم صباحاً ومساء ومع ذلك كانوا يضحكون ويمزحون ويعيشون حياتهم الطبيعية وسط هذه الأجواء بل أطلق هو وأصدقاؤه اسم «أحلى أيام العمر» على الدفعة التى شاركت فى الحرب وخرجت منتصرة، روى لنا أيضاً عن قصص شجاعة الجنود وصبرهم وعزمهم وكان هدفهم الأول النصر أو الشهادة، وكلمة «الله أكبر» كانت تزلزل الأرض وترعب العدو وتعطى لهم طاقة هائلة من الثقة لتحقيق النصر.
وعلى الرغم من مرور 50 عاماً على الحرب المجيدة ما زلت ألمح الدموع فى عينى والدى حينما يستمع إلى أغانى حرب أكتوبر «رايحين شايلين فى إيدنا سلاح» أو يشاهد مشهداً من الأفلام التى توثق الحرب، فيقول لى دماء أبطالنا التى أريقت على أرض سيناء الحبيبة سوف تظل وساماً نحمله على صدورنا جميعاً إلى الأبد.
وفى اللقاءات العائلية تظل حرب أكتوبر وحكايات أبى البطل هما محور حديثنا، والإصابات التى تركت آثاراً على جسده شاهدة على قصة ملحمة العبور، وكأن كل أثر لجرح يحكى حكاية مختلفة يرويها أبى البطل لأبنائه وأحفاده ليعطينا دروساً فى الوطنية والانتماء، مؤكداً لهم أننا شعب يحب وطنه ويعشق الانتماء إليه وأن تراب هذا الوطن هو العقيدة، والتضحية بكل غال ونفيس فداء لأرض مصر هو الهدف والغاية.
تحية إلى أبى البطل.. وتحية إلى كل شهداء أكتوبر الأبرار الذى قدموا أرواحهم ونسوا كل من حولهم وتذكروا تراب هذا الوطن، لندرك أننا أمام خير أجناد الأرض الذين هم فى رباط إلى يوم القيامة.. تحية لجيش مصر العظيم.