فى الإحصائيات العالمية على مر العصور وبرغم اختلاف البلدان والديانات والأسباب التى تنطلق من أجلها حروب ونزاعات وصراعات، وتُرفع بسببها قضايا دولية وتكتب عنها تقارير تقدم وتناقش فى المنظمات الدولية وتنظم الوقفات الاحتجاجية وتقام المؤتمرات من أجل السلام وحقن الدماء وتعقد الجلسات الثنائية والقمم والموائد المستديرة للزعماء والملوك والرؤساء وتتسابق الدول فى استضافة كل مَن يتم دعوتهم للتوقيع على اتفاقيات أو إصدار قرارات فورية بوقف القتال، برغم كل هذا ترتفع أعداد الضحايا والمصابين والقتلى والشهداء، فالإنسان هو أول الخاسرين فى الحروب.
وعن الشهداء الذين يقدمون حياتهم ثمناً للحرية وللأرض والحفاظ على العِرض يتحدث المحللون العسكريون ليعلنوا أعداداً مزعجة تصيبنا بالفزع والخوف من استمرار تلك الصراعات وازديادها، وبصرف النظر عن الديانات والانتماءات، فالألم واحد للفقد والمحصلة دائماً أجيال من اليتامى والأرامل والثكالى يبكون مَن ذهبوا وأمراض نفسية تهاجم هؤلاء الذين فقدوا القدرة على التعايش مع ذلك الواقع الأليم وانهيار للاقتصاد والمبانى السكنية والأحياء الحكومية والمستشفيات وضياع ممتلكات ودمار أسر كاملة وأجيال لبعض الأسر.
عن هؤلاء الذين يرحلون وينبتون فى الأرض فى الأماكن التى عاشوا بها ودبوا بأقدامهم فوقها أشجاراً ووروداً وثماراً، وقد رسموا بأيديهم على جدرانها أحلاماً لم يمهلهم القدر أوقاتاً كى يحققوها. أتخيل كيف تبقى بصماتهم وما المقابل الذى تجنيه الأوطان أو الجائزة التى تحصل عليها وتتباهى بها بين بلاد العالم، وهل يكفى تسجيل أسمائهم على جدران المتاحف وأن توضع إلى جوارها صور تذكارية لهم وملابسهم العسكرية ورتبهم والنياشين التى مُنحت لأسمائهم؟
وفى كتب التاريخ والأفلام الوثائقية والروائية سُجلت الجزائر كبلد المليون شهيد الذين ذهبوا بكامل إرادتهم من أجل الاستقلال، وقد كتب المؤرخ الفرنسى، فرانسوا رينار، مقالاً فى مجلة لنوفيل أوبزر فاتور الفرنسية عن الحروب الأكثر دموية فى التاريخ، فذكر أن هناك جزيرة صغيرة تقع فى طرف جزر سليمان شرق غينيا الجديدة سُجلت فى موسوعة جينيس للأرقام القياسية فى عدد ضحايا الحرب فى النصف الأخير من القرن العشرين، لأنها فقدت نسبة غير عادية من سكانها، وتسمى تلك الجزيرة (يوغانفيل) وقد خاضت حرب الاستقلال منذ التسعينات وكان يقودها انفصاليون قُمعوا بوحشية من قبل دولة بابوغينيا الجديدة التى كانت تسيطر على جزيرتهم بمساعدة أعداد ضخمة من المرتزقة، وقد بلغت نسبة القتلى ما يقرب من ١٠٪ من سكانها.
وفى مقالة رينار تحدث عن مثالين من التاريخ الحديث فى القرن الـ١٩ الأول من الصين فى عهد أسرة (كينج إيان) ما بين ١٨٥١/ ١٨٦٤، حيث قضت السلطات الصينية بعد عشر سنوات من الحرب القاسية على تمرد كانت تكلفته ما بين ثلاثين وأربعين مليون قتيل بسبب المعارك والدمار والمجاعات.
أما الروس فما زالوا يتحدثون عن الحرب العالمية الثانية وكيف أنهم قدموا ٢٦ مليون قتيل ما بين مدنى وعسكرى لسحق النازيين، فى حين كانت خسائر الأمريكيين نحو ٤٠٠ ألف قتيل فقط، أما البولنديون فقد وصل عدد ضحاياهم إلى ٥٫٨ مليون قتيل بنسبة ١٧٪ من عدد السكان، وفى الحرب العالمية الأولى فقدت فرنسا ما يزيد على ٤٪ من سكانها وجاءت ألمانيا فى المرتبة الثانية.
وكشف تحقيق نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن الدمار الذى لحق بقطاع غزة جراء الحرب الإسرائيلية فاق كل الحروب والصراعات التى اندلعت فى القرن العشرين، وتضمن التقرير أن القصف الإسرائيلى بآلاف القنابل براً وبحراً وجواً أدى إلى استشهاد أكثر من ٣٥ ألفاً وإصابة أكثر من ٥٣ ألفآً آخرين وذلك وقف إحصائيات وزارة الصحة بالقطاع، وقد اعتمدت «واشنطن بوست» فى تحقيقها على مقارنات بتحليل صور الأقمار الصناعية وبيانات الغارات الجوية وتقييمات الأمم المتحدة وكذلك إجراء مقابلات مع أكثر من ٢٠ شخصاً يعملون فى الإغاثة والرعاية الصحية وخبراء فى الذخائر والحرب.
ومن جهة أخرى، قال المقرر الخاص للأمم المتحدة بحقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية الأسبق مايكل لينك إن القتلى المدنيين الفلسطينيين فى هذه الفترة القصيرة من الزمن من أعلى معدل للضحايا المدنيين فى القرن الحادى والعشرين، فهل ستنبت الأرض المحترقة أشجاراً مثمرة ووروداً تخلد ذكرى مَن قدموا أرواحهم وأحباءهم ومنازلهم وكل ما حصلوا عليه ومنحته لهم الحياة من أصدقاء وأبناء وأحفاد وأوراق تحمل توقيعهم ومعها كياناتهم، هل ستنبت الأرض أجيالاً جديدة تقول للعالم هيا امنحونا جائزة نوبل للصمود والإصرار فى البحث عن الحرية.