نقرأ فى الكتاب المقدس: «فقال الربُّ لقايين: أين هابيلُ أخوك؟ قال: لا أعلم. أحارسٌ أنا لأخى؟ فقال: ماذا صنعتَ؟ إن صوتَ دماءِ أخيك صارخٌ إلىَّ من الأرض» (تك 4: 9-10). إن أول جريمة حدثت فى التاريخ، أخ يقتل أخاه، وهى أقدم تحيّة للصداقة المزيفة أيضاً.
ما لا شك فيه أننا كنّا نتوقع ثمرة اللقاء الأول بين الإخوة هى العناق والقبلات والحُب المتبادل، ولكن للأسف كانت جريمة قتل. كنّا نتخيّل المحبة؛ لكن هناك العنف والغدر، من المخجل أنه لم تكن الجريمة «قتل عدو»، ولكن «قتل أخ». تستمر البشرية فى جرائم القتل والحروب والتعدّى على الغير، وهذا ما نعيشه خاصة فى منطقة الشرق الأوسط والأراضى المقدسة. نستيقظ على قتل واستشهاد أبرياء من الأطفال والشيوخ والسيدات. يحضرنى فى هذه اللحظة حكاية الأسد الذى كان يسير فى وسط الغابة، وإذا به يرى جميع الحيوانات تهرب من أمام وجهه وتخشاه لأنه ملك الغابة، فزأر بقوةٍ حتى إن صوته دوّى فى أرجاء المكان، ما جعل عشرات الأسود والأشبال تخرج مسرعةً نحوه. وعندما لاحظوا أنه واقفٌ فى صمت، قال أحدهم: «سمعنا زئيرك فأتينا جميعاً لنتعاون معك، أو ننقذك إن كنت فى خطر!» فقال الأسد: «أشكركم، أنا لستُ فى خطرٍ لأننى مَلِك تخشانى جميع الحيوانات، وتهرب من أمام وجهى، لكن خطرت على بالى فكرة أردت أن أشارككم بها».
- «ما هى؟».
- «لماذا لا نعيش كسائر البشر؟».
- «ما الذى ينقصنا لكى نشتهى أن نكون مثلهم؟ فمن حيث الجسم نحن أقوى، ونعيش فى حرية كاملة، نركض وننطلق فى الغابات بمنتهى الحرية».
- «ينقصنا أن نتشاجر ونتعارك معاً، ويأكل بعضنا لحم الآخر، فهذه سمة من سمات البشر».
- «كيف يكون هذا، ونحن نعمل معاً فى كل حين، إن افترسنا حيواناً نقتسمه فيما بيننا، ونعطى كبار السن والمرضى والأشبال نصيبها حتى وإن لم تشق معنا؟».
- «تعالوا نختلف فى الرأى وننقسم إلى فرق مختلفة، نحارب بعضنا البعض ويأكل كلٌّ منّا الآخر».
- «مستحيل، فإذا فعلنا ذلك، سنفنى جميعاً، لأن أجسامنا ليست هزيلة كسائر البشر، أنيابنا ليست فى ضعف أسنانهم!».
- «لنحاول ونجرّب خبرة البشر».
- «كيف نختلف معاً، ونحن نعمل معاً بالفطرة؟».
من المخجل أن الكثير من البشر وصلت بهم الحال إلى مستوى أدنى من سائر المخلوقات، لذا يجب أن نقوم بوقفةٍ مع الذات، حتى نُصلح حالنا، ونتعلم التعاون والتضامن فيما بيننا، مهما اختلفنا فى اللون والجنس والعرق والعقيدة. الغالبية العظمى تشبه «قايين» الذى تخيّل أن أحداً لا يراه، ولن يدرى بجريمته، ونسى أن عين الله ساهرة تَرَى ولا تُرَى، ولا يخفى عليه أى شىء. يذكّرنا التاريخ أن هناك أشخاصاً يستغلون براءة الغير، ويعلمونهم الفساد والقتل وفتح أعينهم على الشر، ولكن إن علموا يوماً ما نتيجة فعلتهم هذه من دمار فى النفوس، لماتوا رعباً أمام المسئولية التى سيطالبهم الله بها، لأنهم مذنبون متهمون بالقتل فى نظر السماء والبشرية.
ما لا شك فيه أن الله موجود ويرى كل شىء ويعلم به، ومهما تجاهلنا الله، إلا أنه شاهدٌ على كل ما نصنعه فى حق الآخرين من سوء ودمار وقتل، كما أن الله سيوجّه لكل منّا نفس السؤال الذى قاله لقايين: «أين هابيل أخوك؟» لا ننكر أن قايين قد تاب على فعلته، فهل سنجد الفرصة لنتوب عما اقترفناه فى حق الآخرين من ظلم وعدوان وقتل وتدمير؟ فالعنف والحرب واحتقار الغير تهدم اللوحة الرائعة التى صنعها الله لخليقته بكل حب. وما لا شك فيه أن غالبية الصراعات والحروب فى العالم، مصدرها هو أننا غير قادرين على قبول الآخر لأنه مختلفٌ عنّا، لذلك يجب أن نعى جيداً أن كل واحدٍ له الحق فى أن يصبح ذاته وليس نسخة منّا، لأن كل إنسانٍ فى الوجود هو فريدٌ من نوعه، كما أنه مدعو ليكون ويعمل ويقول ما هو مختلف عمّا نقوم به نحن، إذاً كل شخصٍ لا يتكرر أبداً، وكل وجه نتقابل معه يحمل رسالةً يجب علينا احترامها، فالمحبة الحقيقية تدعونا إلى عدم استبعاد أحد، لأن القريب بالنسبة لنا هو كل شخص نتقابل معه، وعندما نزيل المسافة الموجودة بيننا وبين الآخرين، ستظهر لنا الصورة الحقيقية للغير، وستصير الأرض كلها فردوساً نتنعم به. ونختتم بكلمات الكاتب والصحفى على أمين: «تعالوا نظلل قلاعنا بأشجار الحُب، فإننا لم نحصد من أشجار الكراهية سوى الهزيمة والفشل».