بالاستقبالات الرسمية، بالمراسم الشرفية، بالسلام الحار، بالابتسامات العريضة، وبالورود والأحضان والقُبُلات، ولمَ لا؟ فالأغانى مُمكنة وعَزف الأغنية البدوية الشهيرة (مرحبتين أهلاً يا حَبيب يا مَرحَب بالزول الطيب) يليق به.. كل هذا كان فى استقبال وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن خلال زيارته لعدد من دول الشرق الأوسط للمرة الرابعة خلال ثلاثة أشهر.. جاء «بلينكن» بأناقته المعهودة ومظهره الراقى وبدلته الشيك ليقول لنا كلمات فى غاية الدبلوماسية، تصريحات لا حول لها ولا قوة، يحذرنا من توسيع دائرة الصراع ويقول: المحادثات بشأن حرب غزة ليست سهلة، وليوجه رسالة ونصيحة لإسرائيل، (الرسالة) هى نصاً: هناك فرصة حقيقية لإسرائيل للاندماج فى الشرق الأوسط «لكن بعد تخطى المرحلة الصعبة»، و(النصيحة) هى نصاً: لا بد من تفادى إلحاق مزيد من الأذى بالمدنيين فى غزة.
لم يكن هذا هو المطلوب من «أنتونى بلينكن»، كُنا نريد منه أن يقول تصريحات حاسمة وقوية ترأب الصدع ويضغط بها على «بنيامين نتنياهو» رئيس الوزراء الإسرائيلى ليوقف إطلاق النار ويُدخل المساعدات ويقول له: كفاية دمار وخراب فى غزة، كُنا نريد منه أن يرى المشاهد المأساوية للمواطنين الذين لا يجدون طعاماً وينامون فى خيام بعد أن دُمرت منازلهم فى قطاع غزة، كُنا نريد منه أن يسمع بكاء الأطفال وأنين الأُمهات وصراخ العجائز على ما أصابهم من ويلات القصف الإسرائيلى البشع، كُنا نريد منه أن يقرأ هذه الأرقام الرسمية الصادرة عن المكتب الإعلامى الحكومى الفلسطينى فى اليوم الـ(٩٥) للعدوان الإسرائيلى والتى تؤكد وقوع (١٩٤٤) مجزرة و(٢٣٢١٠) شهداء و(٧٠٠٠) مفقود تحت الأنقاض و(٥٩١٦٧) مصاباً وتدمير (١٣٤) مبنى حكومياً وهدم (٢٩٥) مدرسة، وهدم (٢٤٠) مسجداً و(٣) كنائس، وتعرُّض (٢٩٠) ألف وحدة سكنية للهدم بشكل جزئى و(٦٩) ألف وحدة سكنية للهدم الكُلى، وهدم (٣٠) مستشفى و(١٥٠) مركزاً صحياً واستهداف (١٢١) سيارة إسعاف.. لكنه للأسف لم يهتم ولا يسأل عن كل هؤلاء الأبرياء ولم يهتز له جفن.
لكننا نريد أن نقول لـ«بلينكن»: لا بد للبنادق أن تتوقف عن إطلاق النار وللمدافع أن تصمت وللطائرات أن تتوقف عن إطلاق الصواريخ، فالأوضاع الإقليمية شديدة التعقيد والتطورات الأخيرة تدعو للقلق وتحتاج لقرارات فورية حاسمة لا تصريحات دبلوماسية مُتكررة، فهذا ليس وقت الحديث عن اندماج إسرائيل فى الشرق الأوسط، فالكراهية عَمَّت بعد إراقة دماء أهالى غزة وحَرق منازلهم وهدمها على رؤوس مواطنيها وتهجيرهم من أراضيهم فى الشمال ودَفعهم للتهجير خارج غزة.
يا سيد «بلينكن» عليك أن تَعلم أن: غزة لا يوجد بها حياة، الحياة ضُربت فى مَقتل، الإنسانية تبددت وتلاشت مع العدوان الغاشم الذى تدعمونه وتُقدمون له السلاح والمال والدعم الدبلوماسى والإعلامى، فقد طوت إسرائيل صفحة السلام منذ ثلاثة أشهر لكننا نقول لكم هيا بنا نفتح صفحة جديدة من السلام الشامل والعادل وأوقفوا إطلاق النار ودَعونا نرسم البسمة على شفاه أطفال غزة ونُعيد إعمار غزة من أجل أن يعيش الإسرائيليون والفلسطينيون جنباً إلى جنب فى دولتين فى سلام، ولا تُحبطوا مسيرة السلام، ألم ترفعوا شعار السلام فهيا بنا للسلام؟ ألم ترفعوا شعار الإنسانية وحقوق الإنسان فهيا بنا نرفض الاعتداء على الإنسان فى فلسطين وإسرائيل معاً؟، أمامكم فرصة ذهبية لإعادة صورة أمريكا التى تنشر القيم والمعايير الإنسانية كما كانت فى السابق، فالفرصة لم تتبدل بعد، ولدينا أمل فى العيش فى سلام بعيداً عن الأطماع الإسرائيلية وكبرياء نتنياهو وحكومته التى قال عنها الرئيس الأمريكى «جو بايدن» إنها حكومة متطرفة.
يا سيد «بلينكن» زيارتك لن تفيد منطقة الشرق الأوسط طالما لم تقُلها صراحةً: بأنه حان الوقت لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار وبدء مسار جديد للتفاوض حول حل الدولتين وإعادة الحقوق لأصحابها الفلسطينيين.. إن لم تَقل ذلك أو تفعل هذا فإن زيارتك الرابعة ستفشل فشلاً ذريعاً مثلما فشلت زياراتك الثلاث الماضية.