فوجئ سكان مصر الجديدة ومدينة نصر، وتحديداً المنطقة المحيطة بالكلية الفنية العسكرية بالقرب من منطقتى منشية البكرى والقبة، فى صباح ١٨ أبريل عام ١٩٧٤، بدوىِّ طلقات رصاص واشتباكات غير مسبوقة لم يتبين البعيد منهم عن المكان مصدرها.
كان هجوماً بالبنادق والأسلحة الرشاشة على أبواب الكلية الفنية العسكرية الخلفية للرغبة فى اقتحامها والحصول على أسلحتها وتوزيعها على أعضاء التنظيم ثم السير إلى القصر الجمهورى ومبنى الإذاعة والتليفزيون.. المجموعة الأولى تسيطر على القصر وتعتقل رئيس الجمهورية والثانية تُلقى بيان الانقلاب انتظاراً لتحرك المصريين ودعمهم لما يجرى!
بالطبع هذا التفكير «العبيط» دون تجميل اللفظ والقول إنه «ساذج» يدل على العقلية التى خططت ونفذت وتصورت أن بلداً مثل مصر تُسقط السلطة فيه مجموعة بنادق وعشرات الأفراد أمام قوات هائلة فى الجيش العظيم والحرس الجمهورى ووزارة الداخلية!
انتهت المحاولة وسُحقت خلال ساعات وخلفت ١١ قتيلاً و٢٥ جريحاً فى رواية.. و١٧ قتيلاً و٦٥ جريحاً فى رواية أخرى، ونرجّح الأرقام الأخيرة لكون الأرقام الأولى نُشرت اليوم التالى بالصحف اليومية المصرية وربما لم تكن الحصيلة النهائية قد رُصدت!
بدأت الأجهزة المختصة التحقيق فى الجريمة.. أبرياء قاموا بواجبهم فى الدفاع عن الكلية فاستشهدوا ومعهم طلبة وأساتذة بالكلية ومدنيون.. وتبين أن قائد العملية أستاذ بكلية التربية جامعة عين شمس اسمه صالح سرية، تقول الأوراق إنه فلسطينى عراقى جاء إلى مصر قبل ٣ سنوات من الحادث!
بينما تقول التحريات إنه انتمى سابقاً للعديد من التنظيمات أخطرها تنظيمات عنف واغتيالات فى العراق، فضلاً عن حزب التحرير الإسلامى وجماعة الإخوان وعدد من التنظيمات، وكلها تؤمن بالعنف!
ظلت القضية فى التحقيقات حتى حُكم فيها بعد أشهر بإعدام عدد من قيادات التنظيم، أولهم صالح سرية ثم أبوطلال الأنصارى وعدد آخر، ثم خُفف الحكم عن بعضهم أولهم الأنصارى!
هنا نتوقف.. إذ ومنذ العام ١٩٧٤ أدير التناول الإعلامى للقضية على أساس أن تنظيماً جهادياً متطرفاً حاول الانقلاب على السلطة فى مصر والقفز عليها وفشل.. ثم قصص وحواديت حول التنظيم وقياداته والمحاولة وفشلها.. إلا أهم نقطة فى الموضوع وهى مَن الذى يقف خلف التنظيم؟! وكيف تصور هؤلاء أنهم بـ«الهبل» الذى جرى قد يحكمون مصر؟!
بقى الحال كذلك ٣٢ عاماً كاملة.. وكالعادة تأتى الحقيقة متأخرة.. هذه المرة من قيادات التنظيم نفسه ممن عاد إليهم بعض من صوابهم.. وربما شجَّعهم تبدُّل الأحوال وتغيُّر الظروف.. حيث صدرت قبل سنوات، وتحديداً فى يناير ٢٠٠٦، مذكرات أبوطلال الأنصارى «صفحات مجهولة من تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة.. من النكسة إلى المشنقة».. التى أصدرتها دار المحروسة للنشر فى ١٢٤ صفحة.. ولم تكن الجماعة قد سقطت، بل كانت فى قوتها أتمت فى العام السابق صفقة الدخول إلى البرلمان مع السلطة وقتها برقم غير مسبوق بلغ ١٢٠ عضواً!
وبالتالى فلا تشكيك فى كلام «الأنصارى»، والجماعة موجودة لم تنفِ ولم تُكذب ما قاله ولا ما جاء قى مذكراته وقتها رسمياً، لكن حتى اللحظة تقول الجماعة على بوابة «الحرية والعدالة»: تعرّف على الحاجة زينب الغزالى، غير أنه سرعان ما أدرك صالح سرية أن الإخوان المسلمين فى مصر غير راغبين أو قادرين على المواجهة مع نظام السادات، وذلك بعد لقائه ببعض قادتهم وعلى رأسهم المرشد العام، وكذلك لقاءاته مع كثير من قياداتهم أمثال الشيخين محمد الغزالى والسيد سابق، فعمل على تأسيس تنظيم مستقل يهدف للخروج على السادات.
كوَّن مجموعة الفنية العسكرية، حيث جمعت قادة المجموعات الشبابية الجهادية فى ذلك الوقت، فمنهم من كان اتجاهه سلفياً مثل «إسماعيل الطنطاوى» ومنهم من يرفض فكرة الانقلاب العسكرى ويدعو إلى حرب عصابات طويلة الأجل مثل «يحيى هاشم»!
بينما يقول «الأنصارى» فيها إن حادث الفنية العسكرية تنظيم إخوانى فى الأساس.. اتفق عليه فى منزل زينب الغزالى -مسئولة أغلب مصائب الإخوان- وإنها هى التى استضافت صالح سرية وأسرته عند وصولهم إلى مصر.. وعرَّفته على شباب الجماعة الجدد وعلى مرشد الجماعة «الهضيبى» قبل رحيله.. ومن الشباب شكل التنظيم، وأبلغتهم بشكل حاسم أن «سرية» وحده هو همزة الوصل بينهم، وأن عليهم الحذر فى اللقاءات والاجتماعات.. مع مباركة أى تحرك عنيف للوصول إلى السلطة والإيمان بأن العنف هو الطريق الوحيد لذلك!!! وأن صالح سرية هو من روى له ذلك قبل أن يرى لاحقاً ذلك بنفسه!!
هنا نندهش، ليس من الكذب الإخوانى فحسب، وهو ممتد إلى كل موضوع وأى موضوع حتى بغباء مفضوح.. ولكن اندهاشنا أيضاً لأنه فى هذه الأثناء من عام ١٩٧٤ كانت مصر مزهوة بنصر أكتوبر ولم يكن الرئيس السادات قد اتخذ شيئاً من القرارات التى استند إليها تنظيم الجهاد فى اغتياله عام ١٩٨١.. فلا كان قد أصدر قرارات الانفتاح وما تلاه من ظهور الفاسدين الكبار، ولا كان قد زار القدس وأجرى مبادرة السلام، بل كان على العكس تماماً قد اتجه للإفراج عن الجماعة وحمايتها ومنحها حرية العمل والإفراج عن كل قياداتها! وكل ذلك يثبت أن الإخوان ليسوا فقط لا أمان لهم، بل يثبت أن السلطة هدفهم الوحيد مهما كانت النتائج ومهما كان حجم الثمن من شباب يصدق قياداته فيكون أول من يدفع الثمن!