سافرت إلى «وارسو»، عاصمة بولندا، أكثر من مرة.. أراها مدينة شديدة الغرابة.. هى التى دمرت الحرب العالمية الثانية أكثر من ٨٠% من عمرانها.. قبل أن يتم إعادة بنائها من جديد بدقة عالية وبنفس شكلها القديم.
بولندا التى قال عنها الكاتب محمد المخزنجى فى كتابه «جنوباً وشرقاً - رحلات ورؤى»: على أرضها صدحت موسيقى شوبان، وتوقد ذهن مارى كورى وكوبر نيكوس، وزهت العمارات القوطية وزخارف الباروك. ولكن المدافع كانت عمياء فلم ترَ فيها غير موقع عسكرى ملائم للاقتناص أو للانطلاق، ومن ثم كان عذابها وكانت حيرتها، فاتخذت لعاصمتها شعار عروس بحر ترفع سيفاً وتحتمى بدرع.
قرأت كلمات «المخزنجى» قبل هبوط الطائرة فى مطار وارسو، فريدريك شوبان.. وكان لها شديد الأثر طوال رحلتى والتى كانت فى شتاء ٢٠٢١.. تحديداً من منتصف ديسمبر وحتى آخر يناير.. حينها كنت أكثر نضجاً ووعياً وتأملاً عن سفرياتى السابقة.
يبدو أن رحلاتى غيرتنى.. وتأثرت خلال التنقل من مكان لآخر بحكايات الناس والأماكن.
هذه الرحلة لم يكن اهتمامى الأول خلالها بتجهيزات احتفالات العام الجديد التى كانت فى كل مكان بالبلد.. الزينة بألوانها المبهجة.. شجر الكريسماس فى منتصف الشوارع وأمام المبانى.
بينما كنت أمر بين الناس فى الشوارع الضيقة منطلقاً نحو الميادين الواسعة أتأمل وأفكر فيما حدث من دمار على أرض أسير عليها. هنا كانت جثث.. دماء تسيل ومبانٍ دمرتها حرب لا ترحم.
كيف تبدل الحال؟.. وهل ينسى الناس؟
حكايات وأفكار وتساؤلات غطت على بهجة قدوم عام جديد اقترب أن يحتفل به معظم الناس.. فرحة مشروعة أتمنى أن تستمر دائماً على كل سكان العالم.
بعد وصلة سير استمرت لساعات طوال فى أماكن مختلفة بينها حدائق كراسينسكى الخضراء والسير على ضفاف نهر فيستولا ورؤية الطيور تحلق فى السماء بالإضافة لخطوات عشوائية فى شوارع مختلفة حتى سوق ميدان المدينة القديم.
اشتد التعب وتصبب العرق رغم أن درجة الحرارة كانت تحت الصفر فى بلد شديد البرودة، أما الثلج فرسم خطوطه البيضاء على الأرض وكأنه استقر فى سلام.. أما قبل فقد اختلط بياضه بلون الدماء بسبب ضحايا الحرب.
كانت الكراسى الحديدية المتراصة فى كثير من الشوارع هى وسيلة راحة لبعض الوقت.. ولم أكن أدرك وقتها أن مجرد كرسى أجلس عليه قليلاً سوف يكون له شديد الأثر على نظرتى تجاه الكثير من أمور الحياة فيما بعد.
فعلى جانب كل كرسى زر دائرى الشكل.. بمجرد الضغط عليه تصدح موسيقى الموسيقار فريدريك شوبان.. شعرت وكأنها ألحان من السماء صنعت بأنامل إنسان تركها ليثبت للجميع أن الحياة ما زالت جميلة ورقيقة تستحق أن يعيشها جميع الناس بحب رغماً عن كل شىء.
قبلها، اعتدت سماع أنواع مختلفة من الموسيقى.. لكن رقة وعذوبة ما سمعت حينها هزنى وقادنى للبحث أكثر عن «شوبان» الذى سمى مطار وارسو على اسمه وبدأ به «المخزنجى» حديثه عن بولندا.
«شوبان» واحد من أساطير صناع الموسيقى عبر التاريخ.. ولد عام 1810 من أسرة تحب الفن.. حيث إن والده الفرنسى كان يعزف على آلة الكمان، أما والدته البولندية فكانت عازفة بيانو.. ورحل «شوبان» عن الحياة عام 1849.. عاش 39 عاماً فقط.. لكن فنه باقٍ يؤثر فى كل من يسمعه.. يضيف من روحه محبة بين الناس.
على كرسى شوبان، ومع رقة موسيقاه، حلقت بعيداً عن كل الناس.. سرحت فى عوالم لم تألفها روحى من قبل.. كانت من أجمل لحظات حياتى وأصدقها وأغربها.. وأصبحت ألحان الموسيقار، الذى رحل عن الحياة فى شبابه، رفيقة لى فى كل مكان.
قررت فى نهاية رحلة بولندا ولأول مرة أنه وأثناء العودة إلى القاهرة أن أحضر قائمة موسيقية أسمعها وأنا على الطائرة.. موسيقى فقط دون كلمات شاعر ولا صوت مغنٍ.
فكنت أنا الشاعر وأنا المغنى، وخيالى فقط من يرسم سيناريو الحكاية.. نظرت من الطائرة وأنا فوق السحاب.. حينها سافرت بخيالى إلى أماكن ساحرة مع كل مقطوعة موسيقية، وعرفت أناساً فى غاية الجمال، أرواحهم خُلقت من وحى الموسيقى.
كنت أنا صانع حكاية الموسيقى التى أسمعها.. أنا المخرج.. كنت أعيش فى عالم مجنون غريب تحركه الألحان البديعة.
عرفت من بعد «شوبان» مبدعين آخرين.. سمعت موسيقى تنبع من ثقافات ومدارس مختلفة.. بيتهوفن وموتزارت وأنطونيو فيفالدى وغيرهم من عباقرة الموسيقى.. غصت فى عوالمهم.. وأصبحوا رفقائى فى رحلاتى.
بعدها جربت أسمع الموسيقى التصويرية لأفلام سينما أحبها وأغمض عينى فأرى أحداثاً مختلفة عن ما دار خلال الفيلم.. كأن السيناريو يُكتب من جديد على ألحان الموسيقى.
الآن.. أتمنى فى يوم أن أحضر حفلاً موسيقياً كبيراً وأسأل كل الحضور بعدها عن الذى فكروا فيه وقت سماع كل مقطوعة موسيقية.
ربما أنقل حكايات الناس التى خُلقت من وحى الموسيقى بشكل مكتوب.. وأنا على يقين أن ما سيقولونه سيكون بديعاً ورقيقاً وحالماً.
ربما أسافر بولندا مرة أخرى وأسأل كل من قرر الجلوس على الكرسى.. فى أى موضوع سرحت؟ وأين سافرت؟ ومتى عدت؟
وأكتب حكايات.. أسميها حكايات كرسى شوبان.
لعلى ألمس قصصاً كالتى كانت فى فيلم لالاند.. أعتقد أن من كتب الفيلم جاءته الفكرة أثناء سماعه موسيقى أثرت فيه.
الموسيقى تؤثر وتغير.. هى الأعمق أثراً على الناس والحياة.
الموسيقى تهزم الحروب وتداوى الأحزان..
لا أتخيل أبداً العالم دون موسيقى.. شكراً لكل صناعها لما تركوه من أثر جميل فى الحياة.