لم أحلم بالعمل فى السينما حتى بعد قبولى فى معهد السينما. رغم الأماكن التى عشت فيها.. (روض الفرج) حى شعبى فيه سكنى وسكن جدى وأخوالى، فيه الأولياء سيدى الحلى وسيدى فرج، وفيه مدارس الابتدائى والإعدادى والثانوى، وفيه أول حب وأول صدمة عاطفية، وفيه أول إحساس برجولتى، وفيه أول فقد تملكنى عند موت جدى حمدان حادى الجمال، الرجل الذى أحب ولم يكره، الرجل الذى حملنى إلى السماء حتى أرى مسكنه فى الجنة، حى روض الفرج الذى مد لى شوارعه ودروبه ونهره المسكون بالجمال.
كذلك حى الجمالية مكان عشت فيه سنوات العمل فى دكان أبى فى شارع الصناديقية، بحى سيدنا الحسين حى المقام الروحى لسيدنا الحسين رضى الله عنه، كنت أرى احتفالات الناس بمولد سيدى الحسين، والمشى فى شوارع وحوارى الجمالية، حيث عشت فى أماكن اشتهرت بأسماء روايات نجيب محفوظ (زقاق المدق - قصر الشوق - السكرية).
عشت داخل أسوار القاهرة ورأيت تجار، وعمال خان الخليلى، وتجار الأقمشة بالأزهر، وتجار العطارة بالحمزاوى الصغير، وركبت تروماى العتبة لأذهب لجدى عبدالرحمن، عشت بين أحضان التفاصيل، ضحكت وبكيت ولم أتصور أبداً أن تصبح حياتى السابقة مصدراً مهماً من مصادرى ككاتب سيناريو، لم أتصور أن البكاء على سوق روض الفرج وإخراجه من أهله، لم أتخيل أن الصراخ ومعارضة نقل سوق روض الفرج والإحساس بالظلم الواقع علينا من هذا النقل سيصبح موضوع فيلمى الأول، وأن التفاصيل التى عشتها سأكتبها مشاهد، وأن حيرتى وحدى وبحثى عن نفسى سيصبح النص السينمائى «المدينة».
وكذلك جذورى الجنوبية، فنحن من عائلة عجاج بسوهاج، عائلة احترفت الهجرة وتوحدت مع الغربة بحثاً عن الرزق فى القاهرة، ولم أكن أدرى أن كتابة الجوابات لأهلى فى الجنوب وهى جسر الكلمات الواصل بين أبى وأمى وجدتى فى القاهرة وبين عماتى وأهلى فى سوهاج، ولم أدر أن فشلى فى دراسة الاجتماع فى أسوان، وفشلى فى معهد السياحة والفنادق سبباً فى دخول امتحانات القبول فى معهد السينما، لم أعلم أن ظهور فيلم المدينة بأفيش فرنسى، ولم أفهم أن موت أبى بعد مرضه القصير أمام عينى الغافلة.. أن كل ما سبق هو تفاصيل أساسية تشكل منبعاً لأفكارى فيما بعد.. وأن كل حياتك أيها الكاتب هى ملامح أساسية من ملامح شخصياتك فى أعمالك السينمائية.
واعلم أيها الكاتب أن تاريخك وزمانك ومكانك، عناصر مرئية وغير مرئية داخل صفحات نصك الدرامى، وأن مقدار احتمالك وقوتك وصبرك فى تجاوز عثرات كثيرة فى طريقك المهنى ستجد من يتجاهلك ومن يسخر منك ومن يسرق مجهودك ومن يحبطك ومن يتمنى موتك. وعليك الإيمان بموهبتك والاستماع إلى عقل قلبك، وعليك الكتابة والكتابة والكتابة.. وأن تعيش كتابتك ولا تنفصل عن الحكاية حتى تبوح لك بسرها، وعليك أن ترد على المشككين بالكتابة الجديدة، وعليك أن تعلم أن الكتابة عذاب وشقاء وتعب نهايته عذبة حنون ناعمة.. وأن الفرق بين الكاتب وغيره، من وهبه الله بالحكاية.
فاستوعب طريقك سيدى الكاتب، وأنت تقدم عليه، ولا تنس سلاحك ولا تسمح لأحد بنزع سلاحك من يدك. سلاحك سيدى الكاتب هو الحب الذى فى قلبك.. حبك حكايتك.. لأن الكتابة حب.