أحب منطقة تحت الربع التابعة لحى الدرب الأحمر، وأحرص على زيارتها كل فترة والسير فى شوارعها وممراتها، لما تسببه لى من راحة نفسية، كما يمدنى سكانها بطاقة أمل وحب حيث يستقبلوننى أنا وزوارها بترحاب شديد، ومع الوقت يزداد يقينى أنها من أجمل الأماكن داخل مصر وخارجها، أجملها بناسها وتاريخها، كما تفاجئنى كل مرة بأصحاب الورش والصنايعية الذين يقدمون صناعات مبهرة ومتفردة.. وأهم ما فيها أنها مصرية.
أتحدث أثناء كل زيارة مع الصنايعية بحرية بعد إلقاء السلامات وتلقى عزومات الشاى، وكأننا أصدقاء منذ زمن، بينهم عم عبدالعظيم الذى يجلس داخل دكانه بالساعات فى هدوء شديد يشبهه، منقطعاً عن العالم الخارجى، يمسك فى يد شيشة ينفث دخانها عالياً، وفى اليد الأخرى عدة عمله حيث ما زال يصنع القبقاب الخشبى.
تخطى «عبدالعظيم» الثمانين من عمره، لكنه يعمل بطاقة وصبر لصناعة منتجه المصرى الأصيل داخل الورشة الصغيرة المعبأة بالدخان، حديث بسيط دار معه وقت آخر زيارة، حكى خلاله عن حبه لما يعمل وبفخر قال بصوته الهادئ بثقة ويقين إن الصنايعى المصرى هو الأفضل فى العالم.
جملة «عبدالعظيم» نابعة من إيمانه ويقينه بقيمة العامل المصرى، فمع وجوده فى تحت الربع منذ أن كان شاباً، لاحظ ورصد أجيالاً تتعاقب يقدمون إبداعاتهم داخل الشارع المتزين بالمبدعين.
هنا أكثر من ورشة يصنع أصحابها البراميل الخشبية بأحجام مختلفة، مهنة ورثها الأبناء عن الآباء، يعملون طوال النهار وبعضهم يستكمل العمل ليلاً، لتخرج منتجات عالية الجودة، صنايعية يعملون بشغف، وقودهم هو حب المهنة وهدفهم وصول منتجاتهم إلى كل الناس، يشجعون المنتجات الخشبية ويبغضون البلاستيكية نظراً لأضرارها وقلة جودتها.
فى تحت الربع لا تنتهى الحكايات وكأنها خرجت من حلقات درامية منفصلة متصلة، لما يحمله ناس المنطقة من مشاعر وأفكار وأحلام وقصص نجاح، فيها قابلت أيضاً «صنايعى شاب» يصنع الخيام، طوال الوقت يدندن بصوت جميل، يحب عمله والناس والحياة، يحلم بفرصة، ليكون صوتاً مشهوراً يسمعه العالم، يحلم أيضاً أن تصل منتجاته للعالم.. يراها متقنة تستحق.
أما هدى حسين التى تشرف على ورشة تصنيع وتبيع منتجات مصنعة من المعادن، تجلس على كرسى خشبى بين الشارع والورشة، توزع ابتساماتها على المارة فى محبة واضحة، وتباشر العمل وتتابع عمالها بمعلمة، ذلك على الرغم من حركتها البطيئة، حيث إنها تتكئ على عصا تساعدها على السير، تستمد المرأة الستينية طاقتها من روح الصنايعية وجهدهم، وتوزع عليهم كلمات التشجيع الصادقة والدعاء بصلاح الحال والنجاح.
أمام ورشة تشغيل المعادن يوجد مطحن كبير، رائحة البن القوية تتسلل داخل الأنوف لما لها من قوة وجمال، فى بعض الأحيان تجبر المارة فى الشارع على الوقوف لشرائه أو شرب فنجان قهوة له أثر كبير فى تعديل المزاج.
وبجانبه توجد ورش تصنع منتجات وماكينات مطاحن البن، لتكتمل الصورة بداية من صناعة الماكينات وحتى بيع أنواع البن المختلفة، وكل ما فى المكان مصرى بجودة مرتفعة. فى الشارع يتردد يومياً عم خالد، خمسينى بسيط صاحب ضحكة طفل، يبيع الأسبتة وبعض المنتجات الفخارية، لا حديث له فى يومه سوى عن لاعب الكرة المصرى المحترف فى ليفربول محمد صلاح، يبكى وقت خسارته.
ويضحك بعد تسجيله الأهداف، ويعلق داخل دكانه صوره ومانشيتات الجرائد التى تحتفى به، يعتبره ابناً من أبنائه ويوزع زجاجات الحاجة الساقعة فى حال فوزه ببطولة أو تحقيقه رقماً قياسياً، ويراه نموذجاً مصرياً مشرفاً أمام العالم. أما شعار عم خالد وقت البيع وساعات العمل هو الرزق على الله.. والابتسامة تجلب الخير.
ويزين الشارع أحد المحال اسمه المصرى، يحرص صاحبه على بيع لمض الجاز حتى وقتنا الحالى، تتزين فاترينته الصغيرة بألوانها المختلفة المبهجة، وأيضاً يببع الباجور، ويعتز ويفخر صاحبه بمهنته وصنعته، كما أن له زبونه الذى يهوى ويحب كل ما هو قديم وأصيل.
وفى الشارع كنفانى الجمهورية، الذى ورثه عم على عن جده الرابع، يصنعون الكنافة والقطايف بأيادٍ مصرية، يقف بين عماله الذين يرتدون الجلابيب أمام ماكينة صناعة الكنافة، ويحرص على تعليق صورة والده داخل المحل فخراً واعتزازاً بما ورثه منه.
بين المحال والورش المتراصة، القليل من المقاهى البسيطة تفرش كراسيها الخشبية أمامها، يقدم العاملون فيها الشاى والقهوة للجالسين من عمال وصنايعية ومارة وزبائن، وأحدهم يقوم بإيصال المشاريب داخل الورش لضبط مزاج الصنايعية.
بداية ونهاية تحت الربع ملهمة، أوله فنانو النقش والكتابة على الرخام، الذين يخفضون رؤوسهم بالساعات لكتابة اسم أو آية قرآنية بحرفة شديدة، وفى آخره الخيامية، فنانو النقش والرسم على القماش، ألوانهم مبهجة، وحكاياتهم التى لها عمق يتعلق أكثرها برسومات مصرية حديثة وقديمة.
يمسك كل فنان الإبرة والخيط ويجلس بالأيام وأحياناً أشهر للانتهاء من منتج فنى مبهج.. يعلق على حائط أو يخرج فى شكل شنطة أو فانوس خيامية بألوان مبهجة.
يزداد تعلقى بتحت الربع قبل شهر رمضان الكريم بفترة، حيث يبدأ باعة الفوانيس الصاج ومصنعوها فى فرشها وإضاءتها بأحجام وأشكال مختلفة. ويعمل صناع الفوانيس على صوت عبدالمطلب أو أم كلثوم، أغان تصدح من راديوهات داخل الورش وتصل إلى خارجها.. فتملأ الأجواء بهجة وسعادة.
كما تتزين الشوارع بإكسسوارات وأقمشة طبع عليها رسومات لشخصيات رمضانية كبوجى وطمطم وفطوطة وعمو فؤاد. وقعت فى غرام تحت الربع والدرب الأحمر من أول خطوة لى فيها.. تعلقت بمنتجاتها المصرية وأحببت ناسها ولهم منى كل التقدير والاحترام.