الوهم يرتدى ثوب القوة والبطش.. يحمل الأبواق.. الوهم سراب يمتزج بنيران واهية.. الوهم خدعة.. من يستظل بالوهم هلك.. ومن تمسك بالله الثابت دمر الوهم ومحاه.. بلادنا بلاد العزة والرجولة.. مصر لا تخشى الأوهام.. إنها محروسة برباط إلى يوم الدين.
شجرة الزيتون:
بيت وسنوات.. لا الليل يسبق النهار.. ولا النهار يسبق الليل.. كأنفاس الفجر صوت جدى.. لا يفنى الصوت.. ولا تفنى الرحمة.. يتقدم شاب يصلى إماماً.. والإمام خلفه يؤيده.. جدران البيت من الأحجار.. والقرآن يتردد كالمطر.. يزرع ويظلل وينشد ويشيد.. الأرض هنا.. السماء هنا.. ويظهر المهدى هنا.. المسيح وجهه مغسول.. الوضوء على وجهه.. يبتسم الأب لأمه.. وهى تخبز العيش.. يخرج طاجن البصل من الفرن.. أولاده حول المائدة.. والشمس تغازل الشجر.. لن يزول حرف محفور.. ولن يتراجع قلب مفطور.. الجذور تحمل الأرض.. والحبيب سماء وغيث.. وائل دحدوح يودع أسرته.. والميكروفون بلا سماعات.. أين الصور.. والنداء جمع.. الأجسام شهداء.. وهل الشهيد إلا بالوصل موصول.. وهل البيت إلا بالناس.. كلما زاد القتل يزحف الدم إلى الجذور.. ترتوى أشجار العمر بأيام شهيدة.. لا البكاء يصلح وقت العزم.. ولا الكلام يصلح وقت العداء.. بيت الرجال كما هو مرهق ينتظر الأيام.. والأيام تقسم بالشهادة.. والجد يرتدى حلة الاستقبال.. يشهد استشهاد أولاده.. وأحفاده فى صمود.. تستعد لارتداء ثوب الشهادة.. هكذا الأشجار وهكذا الأيام.. وهكذا الملائكة.. تتعجب من رجال الله.
بيت أمى:
يبكى بكاء لا يشبه البكاء.. بكاء بلا صوت.. بكاء بلا دموع.. بكاء عجيب.. والأعجب أنك تتوحد مع بكائه.. يتكلم بضع كلمات.. لا يزيد عنها.. يكتفى بالحركة.. يسير فى كل اتجاه.. لا يتوقف عن الحركة.. أنفاسه متقطعة.. يقال إنه مات قبل سنوات.. عندما فجروا بيت أمه.. مكث تحت الأنقاض.. وخرج على حالته هذه.. لا يتكلم ولا يبكى ولا يتوقف عن الحركة.. كل فترة من الزمن يحوم حول منزله.. تغير المكان.. تغير الوقت.. تغير الجيران.. لم تعد الياسمينة مكانها.. ولم يقترب منه والده يحمل له عقد الفل.. كلما تاه عن مكان الانفجار.. يسمع صوت أمه.. يسرق من أطباق المطبخ.. وأمه تمسك يده تزيده من الطعام.. يوم الشمس كانت تنذر وتحذر.. والسحاب يشهد يوم التفجير.. يلعب كعادته أمام البيت.. صوت أطباق الطعام.. أصوات تلاوة القرآن.. أصوات النداء تمتزج بأصوات السيارات.. توقف كل شىء.. يرفع رأسه نحو السماء.. يجرى يسبق القهر.. يدخل مطبخ أمه.. لحظتها تسقط القنابل.. وتستعر النيران.. وقتها يسقط الجدار.. لم يعد بين الناس حجاب.. سقطت المسافات.. دُمر البيت تماماً.. هل يسمع نبض قلبه.. كأن القلب يؤنسه بدقاته.. مرت ساعات.. وهو يسمع كل فترة نداء.. يسمع بكاء.. يسمع صوت أمه.. هلاوس ما يسمع؟! أم أنها أمه.. بجواره تكلمه.. تحت الأنقاض.. تتواصل به.. يتواصل بها.. لم يكن نبض قلبه كان يسمع قلبها.. تواسيه.. تطمئنه.. حتى فتحت طاقات الرحمة.. يخرج من تحت الأطلال.. لكنه يخرج دون نبض.. يخرج وحده.. يخرج دون أمه.. سنوات بعد قانا.. يصبح الطفل شاباً.. يتزوج فى بيت قديم.. يصير أباً لثلاثة أولاد وبنتين.. وخريف جديد.. ينفجر الطوفان.. يساعد أهله.. بعد أن صار طبيباً.. يسكن سيارة إسعاف.. ينقذ أهله وأصحابه.. حتى سمع بانفجار وهجوم على بيته وأهله وأولاده.. يسبق الريح.. يسبق الشمس.. لكنه لم يسبق القدر.. يسقط بيته فى غزة.. يسقط فوق رأس أولاده.. من جديد يزحف تحت.. الأنقاض.. يستمع إلى أصوات المطبخ.. لعل زوجته وأولاده.. فى مطبخ نهارهم يصنعون ويطبخون الأرز والسمك الصغير.. ينفجر بيته بعد الطوفان.. لم يدرِ ماذا سيفعل.. لن يستسلم لأوهام ولن يهرول خلف سراب.. حاولوا منعه.. لكنه يعلم مكان أسرته.. يستمع إلى أصوات قلوبهم.. للقلوب نداء.. والنبض وصال واتصال.. يسكن بلا صوت تحت الركام.. حتى يشعر بأنامل ابنته تستقبل مجيئه الرحمة.. تحت الأنقاض.. تتجمع الأصوات.. نداء بعد نداء.