تسكن الدور الأرضى، البيت مفتوح على الحارة.. حصيرة بجوارها زير وقلة.. تشرب «نجفة» فى صبر وتغسل بالماء وجهها، فى حِجرها حبات الكوك تصنع السِّبح للذاكرين، حبات من خشب العناب المغربى، وحبات الزيتون والعود والعاج والأبنوس، «نجفة» ترث صنع السبح عن والدها «جدى حمدان»، تنتهى «نجفة» من لضم مجموعة السبح قبل المغرب، عين «نجفة» لا ترتاح فى الليل، تلضم السبح عشرين سبحة من نوع واحد، اليوم فقط صنعت عشر سبح من خشب الزيتون، تتعكز على يد ابنها نور، يذهب بها إلى باب الفرج، تقرأ الفاتحة عند سيدنا الحسين، تنادى على ابنها.. فى النداء سر: نداء الملهوف غير نداء المستبشر، غير نداء المستغيث.
نركب الميكروباص من سوق السلاح إلى سيدنا الحسين، نشرب الخروب على التمر، نجفة تبيع السبح عند دكان الفحام، داخل وكالة الفضة، تخفى النقود كما تخفى ضعف نظرها، بدأت تجمع السبح ويفلت منها النظر، تتغافل وتضحك وهى تجمعنا حولها كالقطط، تشوى الذرة على صاج البابور، تطلب منى لضم الخيط، وبعد أيام الحظ، تبطئ حركة أصابعها، ألاحظ صمتها وهى تحمل حبات السبح، دون لضم الحبات، تجلسنى فى إغراء بهدية فوق منابى، جناح دجاجة أو ملعقة أرز.
بدأت أهرب من المدرسة، لأجلس بجوارها ألضم لها السبح، تتابعنى وهى تحكى عن أيام طفولتها، كانت ملكة بيتها وهى طفلة حتى تزوجت، وأصبحت مسئولة عن عائلة من أربع بنات وولد، تعطينى هدية إنجاز السبح، لكى أذهب معها إلى باب الفرج، تمسك بيدى وهى تدعى الصحة والنظر، حتى توقفت لأشرب الماء، وسط حارة البنان أمام موازين الدهب، تذكرت أنها عطشانة. أمى تحب ماء الفخار، والتفت إليها بالقلة، لم أجد أمى، تاهت وسط السوق، أو تهت منها وسط السوء، وبلا هدى بكيت، الخوف يصاحب الغريب، جريت فى السراب أبحث عن حضنها، وجدت على الأرض حبات من سِبح الزيتون.
كنت ألملم فتافيتها فوق الأرض، لأقترب من أنفاسها، جمعت الحبات، أنفاس أمى ليست سراباً، على الجهة الأخرى كانت أمى تسير، فى خوف تدعى النظر حتى لا يسخر منها أحد، تتحرك بين الناس، لا تقدر على التوقف، ولا تقدر على الاستمرار، لم تدر أنها فى شارع مسافر خانة، لم تدر أن حريقاً خلع باب القصر، وأصبح الخان دخان، داخل القصر الذى حُرق عمداً، وسُرقت أعمدته المرمر، وخلعت مكتبته من خشب الورد، وتم فك حروف وآيات وفسيفساء، وأرضية من الرخام.
تسير أمى، وهى تتخيل أنها فى دروب قصر الخان، كما كانت تتذكر الخان، أيام صحبة أبى وإخوتى، الآن أمى وحدها فى الخان القصر الذى كان، تسير فى دروبه بين المبنى الشرقى والمبنى الغربى، بين قاعة الحريم والمشربيات وبين قاعات المكتبات، ابيضت عيناها، تسير أمى بلا ظل، مسافر خان خالٍ من كل شىء، لا إنس ولا جان، لا أبواب ولا آثار ولا أصوات، حتى المشربيات وزجاج الألوان المعشق سُرق، صوت الفنانين والرسامين، أصبح سراباً بعد أن كان صدى، كان السمر بين الفنانين وحلقات الغناء والحكى حلقات الأنس والطرب، وبعد الحريق والهجر والصمت والسكات، تبكى عيون الرسامين، وهم يجمعون اللوحات من الرماد.
لم يعد فى عين أمى نور، تسير «نجفة» بلا نور، يغلق الليل أبوابه، و«نجفة» داخل الخان، تبكى فى صمت، تؤنس نفسها بالغناء، تحفظ من الأغانى الكثير، أغانى الصعيد مواويل، متاهة «نجفة» أنفاس لها صدى، ليل غير منقوص، وابنها يحمل بقايا سبح الزيتون، ينادى على أمه، والفجر مصباح «نجفة»، زاد المتعاطفون مع نور «اللى من غير أم حاله يغم».
يصلى فى جامع سيدنا الحسين، يسير وهو يتمتم بسورة «الضحى»، من بين أصابعه الصبية، تتسرب حبات السبح، على الأرض دون انتباه، تتجاوز قدماى زقاق المدق وقصر الشوق، ووكالة الفضة والفحامين والحمزاوى الصغير، والسكة الجديدة، حتى أسوار سيدنا الحسين، تعبت قدماى، هل هناك بيت بلا أم، لن أعود من غير أمى، مَن يشترى حبات بلا خيط، وهل السبحة إلا عناق حبات وأم، النهار بوابة الزحام، فتح الباب أمام أقدام الناس، والشمس سجادة ترسمها الظلال، وظل أمى نقش أمام الباب، تخيلت يومى القديم بصحبتها، أمسى أصبح تاريخاً، فليس للحاضر عنوان، كم ضيعت من مستقبل فى أنسها، وكم أشتاق إلى غد فى حضن ظلها.
قلت أمشى مسار رحلة أبى وفسحته، كان يصطحب أمى إلى دروب الجمالية، وهو يعلمها أسماء تلك الدروب، مسار أبى ينتهى عند سور المسافر خانة، وجه أبى يشير إلى فسقية الخانة، توقفت أمام سور الخان، وعينى تحدق غير مصدق، كيف يتم حرق الخان، هل الأحجار والمرمر والفسيفساء، المشربيات والزجاج الملون يحرق، اللوحات والألوان تحرق، هل الأبواب تحرق؟! كذبت عينى وأنا أحرك قدمى لتبتعدا، لن أصدق أن أمى داخل أسوار تحترق، أمى ظل وماء عذب، داخل فخار، أمى ظل شجرة ونسيم، وقبل أن أصدق ادعائى وانسحابى، تخرج أمى بعد التوهة، تفرد يديها تنادى، تستنجد بمن يؤمّن طريقها، لتعود إلى بيت الظل، تلضم السبح تذكر وتصلى، جريت إلى حضنها، صوتى محل نظرها، تمد أمى ظلها، لتحمى رأسى من الشمس، وهى تضحك وتضربنى، تضحك وتبكى، تضحك من الخوف، وبصوت مشروخ من فضاء الليل تقول: «عضيت قلبى يابنى»، ولم أشعر بضرب أمى قدر ما تألمت من لهفة صوتها تخفى فقدان بصرها، وبخوف تصرخ: «روّحنى»، وفى نفس الوقت، تطمئن علىَّ بلمس جسمى، لتشعرنى بالأمان «إن حضن أمى ظل».