رأيتها تجلس على رصيف بأحد شوارع شبرا مصر الجانبية، بالقرب من فيلا مكتوب على سورها الخارجى: «هنا عاشت الممثلة مارى منيب بتاريخ ١١ فبراير ١٩٠٥ وحتى ٢١ يناير ١٩٦٩».
كانت ترتدى عباءة سوداء وطرحة زرقاء، أمامها دلو ألومنيوم كبير الحجم وقفص خشبى، وتقوم بمهمتها اليومية والتى تجيدها جيداً، وهى تقطيع السمك الموجود أمامها بمهارة وتنظفه بسلاسة شديدة من أجل رزق أولادها، وقبل رحيلها فى نهاية كل يوم لا تنسى القيام بمهمتها الثانية وهى إطعام قطط الشارع التى تلتف حولها حباً فيها وبحثاً عن رزق يأتى من خلالها، وكأن القطط تحفظ مواعيدها بدقة، وتعرف جيداً طيبة قلبها وكرمها.
قالت لى إن اسمها أم عمرو، حدثتنى بابتسامة طيبة لم تغب عن وجهها طوال فترة جلوسها، عن حبها للحيوانات خاصة القطط، وحرصها على إطعامها لأنها الكائنات الأضعف، كما كلمتنى عن شبرا مصر وناسها وعن حبها لهم ولشوارعها وبيوتها، واستكملت كلامها بعفوية شديدة عن الفنانة مارى منيب والأفلام المصرية القديمة الأبيض والأسود والتى تعرفها جيداً.. وتحفظ الكثير منها.. ثم أشارت بيدها ناحية الفيلا التى كانت تسكن فيها «منيب» لسنوات طويلة.
كانت «أم عمرو» بشوشة وطيبة فطلبت منها أن ألتقط لها صورة ومن حولها القطط أصحابها للذكرى، فرحبت بسرعة شديدة.. وحتى دون أن تسألنى لماذا سوف تلتقط الصورة؟ ولأى غرض؟، وكأنها بطلة على مسرح تتوقع وجود الكاميرات فى أى لحظة وتعتاد التصوير، فتستعد بابتسامة جميلة، وبعد أن صورتها، صدحت فى الأجواء ضحكة نسائية طيبة وعفوية، فكانت بائعة الخضار جارتها تنظر لنا وتصفق بيديها وتبتسم، ثم رددت: «عندنا فضائية عندنا فضائية» على طريقة الخالة نوسة والتى جسدها الفنان محمد هنيدى فى فيلم «يا نا يا خالتى».. والذى تم إنتاجه عام ٢٠٠٥ ومن إخراج سعيد حامد.
كان الحوار فى شدة الجمال وغاية البساطة داخل مشهد حقيقى دار بتلقائية فى الشارع المصرى، البطل فيه سيدتان من شبرا، وخلاصته أن فى شوارع مصر وحواريها وعلى أرصفتها سراً وخلطة لا توجد فى أى مكان آخر، حكايات عن حب الناس بعضهم لبعض، طيبة وحنية وتلقائية، وحب للفن وحفظ دقيق لمشاهد الأفلام جديدها وقديمها.. وكأنها جزء من الحياة التى نحياها.
تذكرت حينها عدة مشاهد شبيهة تكررت أمامى فى مناطق مختلفة أبطالها مواطنون بسطاء لهم الكثير من الحكايات المختلفة التى تستحق أن تُحكى، منهم صاحب مقهى قديم فى المغربلين بحى الدرب الأحمر، حينما قابلته مصادفة منذ عام تقريباً، وجلسنا على الكراسى الخشبية القديمة داخل المقهى، لاحظت وجود صور الفنان الراحل محمود المليجى فى كل الأركان وبأحجام مختلفة، لقطات من مشاهد مختلفة للشخصيات التى جسدها فى أعماله، وحكى لى صاحب المقهى حينها أن «المليجى» ابن المنطقة، وكان يجلس على المقهى نفسه وقت أن كان والده يديرها، وهو يفخر بذلك، وردد بعض كلمات من أفلامه، يحفظها جيداً ويؤكد تأثره بفنه وشخصيته وأنه يفخر به كواحد من أهم نجوم السينما المصرية على مدار تاريخها. خرجت من المقهى فقابلت أحد سكان المغربلين فى مشهد لا ينسى، كان اسمه عم عاطف، تخطى عامه الـ٧٠ بقليل، وجهه بشوش، يبتسم طوال الوقت، ملابسه متواضعة ويسير خلفه كلاب الشارع وكأنها أعز أصحابه، ينظر لها ويتحدث معها، يحنو عليها ويقبلها، كان يحمل فى يده أكياس طعام لها. وعرفت حينها أنه يحرص على النزول يومياً فى مواعيد ثابتة لإطعامها.. حتى قبل تناوله لوجبة طعامه.. وبسبب تعلقه الشديد بحيوانات المنطقة، أقام فى أحد الأيام عزاء لكلب بسبب شدة حزنه عليه. بكى «عاطف» وقتها فى مشهد رحيم جسده مواطن مصرى بفطرته وتلقائيته ونقاء قلبه.
قبلها بسنوات، بينما كنت أسير فى حارة السقايين بالناصرية، لاحظت وجود قطط تجلس على منضدة داخل مقهى، ويقف أمامها رجل خمسينى يقوم بوضع الطعام لها، وكأنها ضمن زبائنه، عرفت بعد الحديث معه أنه صاحب المقهى، اسمه علاء صلاح، وهو يخصص تلك المنضدة للقطط التى تأتيه يومياً من أجل تناول وجبتها، والمكونة من لبن وتونة وأحياناً لحوم الحلويات، بالإضافة إلى مياه يضعها فى أكواب عميقة، وقال لى حينها: القطط دى روح طيبة ولما بأكّلها ربنا هيسامحنى على أى غلط أنا عملتها» جملة خرجت منه ببساطة وصدق وحب، القطط كانت تأكل على أنغام صوت أم كلثوم التى تصدح من راديو قديم داخل المقهى، حيث ذوق عم علاء فى الأغانى، وهو بروقان شديد يحنو على قطة ويدندن الغنوة.. ويرشف من كوب الشاى الذى يعدل مزاجه. وفى حى عابدين قابلت الحاجة أمينة التى تحرص يومياً على إطعام القطط التى تنتظرها أمام بيتها المتواضع، عادة تقوم بها منذ أن كانت شابة، ولا تكتفى بإطعام القطط فى الشارع، بل تسمح لها بالصعود داخل منزلها، تلعب وتضحك وتتحدث معها، و«أمينة» تعرف كل قطة جيداً، وفى حال غياب إحداها تقلق وتبحث عنها حتى تجدها وتطمئن عليها فيرتاح بالها.
جميعها حكايات جميلة كثيراً ما أراها فى الشوارع، خلطة ميزت المواطن المصرى، الذى يعيش بتلقائيته وفطرته النقية كالطفل البرىء مهما كبر السن وأرهقته الحياة، وهى سره البديع وسبب تميزه، يضحك فى وجه الدنيا، يحنو على البشر ويحب الشوارع والحكايات والبيوت، ويصاحب الحيوانات ويتعايش معها فى كل الأماكن، يعتبر نفسه مسئولاً عنها وعن أمانها وطعامها وشرابها. يحب الموسيقى ويدندن الأغانى جديدها وقديمها.. يلقى الإفيهات ويحفظ مشاهد الأفلام التى تأثر بها وأثر أيضاً فى كتابها ومخرجيها.. فعبرت عنه وعبر عنها.. فباتت حكايات الحياة اليومية كمشاهد أفلام السينما بطلها الناس فى كل شارع.