فى أواخر حياته أصيب الدكتور محمد على البقلى، الملقب بـ«الحكيم»، بنوع من اليأس والضجر من السلطة فى مصر. كان الخديو إسماعيل قد استبعده من موقعه كرئيس لمستشفى «قصر العينى»، وجرده من مناصبه الأخرى، وأجلسه فى بيته دون عمل، ولم يكن للرجل أن يرضى عن الجلوس فى البيت، وهو يظن بنفسه القدرة على العطاء.
كان ذلك بدايات عام 1876 على وجه التقريب، حين قرر الخديو إسماعيل تسيير حملة عسكرية إلى الحبشة، بقيادة عمه البرنس حسن باشا، وعندما سمع «الحكيم» بذلك قرر أن يسير مع الحملة حتى يخدم جنودها طبياً، ويداوى جراح من يصاب منهم.
يذكر جرجى زيدان فى كتابه «تراجم مشاهير مصر فى القرن التاسع عشر» واقعة سفر محمد على الحكيم مع الحملة العسكرية للحبشة، دون أن يوضح: هل خرج معها بتكليف رسمى أم متطوعاً.
أرجح الظن أنه خرج متطوعاً بعلم السلطة الخديوية، فالرجل لم يكن يرضى بأن يمكث فى بيته دون عمل، بعد أن ترك كل مواقعه ومناصبه، ولم يكن أمامه من خيار ليواصل الحياة سوى أن يتخذ هذه الخطوة التى شكلت مجازفة بالنسبة له، بعد أن جرى به العمر، وبات يناهز الستين، وتراجعت صحته، ناهيك عن وعيه بالأوبئة التى يمكن أن تصادفه فى هذه الرحلة الخطيرة، ورغم ذلك قرر الخروج.
وكما كان متوقعاً لقى «الحكيم» حتفه فى هذه الرحلة. يقول «جرجى زيدان»: «عاجله أجله فى الحبشة فتوفى هناك سنة 1293 هجرية/ 1877 ميلادية».
لم يوضح «زيدان» الكيفية التى توفى بها «الحكيم»، والأرجح أنه مرض ومات. كما لم يوضح «جرجى» أين دفن «الحكيم»، واكتفى بالإشارة إلى أن قبره غير معلوم المكان، وإن كان أشار إلى حكاية عجيبة زوده بها أحد القادة المشاركين فى الحملة (مصطفى أفندى صبرى القومندان).
يحكى القومندان أن بعض الأحباش أبلغوه أن المرحوم «الحكيم» قد أقيم له قبر بالحبشة ببلدة تسمى «جراع» ما بين بلدتى: عدوى وأسمرة، وأنهم شيدوا فوق قبره قبة عظيمة، وجعلوا المكان مزاراً، يلهجون له فيه بالدعوات.
ورغم أن الحكاية تبدو خيالية، فإنها غير مستبعدة إذا أخذنا فى الاعتبار طبيعة شخصية الدكتور محمد على البقلى كما تحكى عنها بعض الكتابات.
فربما يكون الرجل قد بذل واجب العلاج وداوى جراحات البسطاء من أبناء قرية ما من قرى الحبشة.. فالطبيب لا يميز أو يفرق عند القيام بواجبه ما بين عدو وصديق، وربما يكون أهل القرية قد حملوا هذا الجميل له، فتكفلوا بستره بعد وفاته، ودفنوه وأقاموا له القبر الذى يحكى عنه «القومندان»، ليقوموا بما كان يتوجب على أبناء جلدته من المصريين القيام به، لكنهم قصروا عنه لأسباب غير مفهومة.
فى كل الأحوال سيظل اسم الدكتور محمد على الحكيم واحداً من أقدم الأطباء الذين عرفتهم مصر، ونموذجاً مبكراً للمهنى القدير الذى فرض عليه السياق أن يكون قريباً من السلطة، لكنه لم يبتعد عن الناس، وظل البسطاء الكهف الذى يأوى إليه من صقيع السلطة الذى كان يجمد قدراته.