اسمه سعيد وشهرته سعيد فونيا، نحيف كالدبوس، سريع يحلق كالفراشة، لا يتكلم إلا فيما ندر، عيناه سوداوان واسعتان، وجهه صغير له أنف، فى قدميه كاوتش لم يغيره منذ سنوات، سريع التحرك كثير التوجه لا يتوقف أمامه شىء، يقبع فى دكان له سندرة بعرض الدكان، على الجدار الأيمن للدكان يعلق البوابير، بثلاثة أحجام وعلى يسار الدكان يعلق سعيد فونيا لمبات جاز على شكل مثلث.. سعيد أشطر سكان سيدى الحلى، الأول على مدرسة شبرا فى السنة الثانية علمى رياضة، كان يعشق سعاد، ينام ليله فوق السندرة، ينام ليله سعيداً وحيداً بلا عائلة.
سعيد يلعب معنا على كورنيش النيل. سمعنا انفجاراً. كنا نشرب الشاى على صندل عم فاروق. توقف سعيد وهو ينظر من مكانه فوق الصندل تجاه شارع سيدى الحلى.كان آخر من وصل مكان الانفجار. العجيب أنه لم يصدر أى رد فعل. ولم ينطق بحرف. لم تدمع عيناه.. سكت، لكنه لم يغمض عينيه الواسعتين.. كان يحمل جثث أسرته.. والده وأمه وإخوته الأربعة.. يندفع الجميع يواسيه وهو مكانه.. ينظر لما بقى من أسرته، سعيد لم ينطق أبداً عن استشهاد أسرته، حاولت صحف أخذ تعليق أو صورة فيها انفعال دون جدوى.
فى صباح اليوم التالى للانفجار واستشهاد أهله، سعيد يفاجئ الحى بالكامل، وهو يفتح دكان والده عم فؤاد، عرض البوابير على يسار الدكان، ولمبات الجاز على يمين الدكان.ولم يذهب للمدرسة أبداً، حاولنا دفعه للذهاب إلى المدرسة لكن رفض سعيد حاسم، حاولنا خطفه إلى المدرسة، يرفض سعيد كل محاولة، حاولنا ضربه ليصرخ لينطق، وسعيد على حالته لم ينطق، جاءه مدير المدرسة ومدرس الرياضة، فلم يجدا أى تجاوب مع سعيد، ينظر فى عيون الكل فى صمت دون رد أو تجاوب حتى اعتاد الجميع على صمته، اعتاد الكل على وجه سعيد ونظرته الساكنة، أصبح الجميع يهابه فى استسلام.
هكذا مرت أيام الثانوية العامة، الزغاريد تملأ الحى لمن نجح، والصراخ والنواح لمن رسب وسعيد كعادته شارد فى انفصال عن الانفعال، يتابع بنظراته دون تعليق، يبتسم لنجاحنا وهو يهز رأسه فى فرحة، كان مسار دهشتنا، نظراته كلها رضا وصمت، يهنئنا ويختار معنا كليات التنسيق، يذهب معنا مشاوير التقديم للجامعة، فى الجامعة خرجنا تسعة شباب وبنت اسمها سعاد، نتوجه من الحى إلى جامعة عين شمس، أول مرة نذهب للدراسة بملابس الخروج، توقفنا أمام دكان سعيد، ترك انشغاله بتصليح بابور، فتح حضنه يسلم ويبارك فرحتنا، وفوجئنا بسعاد تتوقف أمام وجه سعيد، وتنحنى تقبل يده، وسط ذهولنا، وهى تعلن أن دخولها هندسة عين شمس ليس بسبب مذاكرة، لكن بفضل متابعة وتعليم سعيد لها طوال العام الدراسى.
سعيد كان عبقرياً لا مثيل له فى علوم الرياضيات، الأعجب أن سعيد كان يساعد سعاد طوال فترة الهندسة.. يقرأ كتب الهندسة وبسرعة مذهلة يستوعبها ويقوم بشرحها، بعد سنوات الجامعة، صارت سعاد مهندسة، ومحط طمع ورغبة شباب ورجال الحى، يتقدم لها كل يوم شاب.. سعاد ترفض الجميع! كانت الإجابة أنها تحب سعيد. هنا ولأول مرة انقلب كل شىء، لم يعد أحد منا يقترب من سعيد فونيا، بل أصبحنا نتجاهله ولا نتحدث عنه. كأننا تحولنا من أصدقاء سعيد، ومقدرين ما حدث له ومتعاطفين إلى كارهين له، فقط لأن سعاد فضلت سعيد علينا، تبدلت الصحبة إلى عداوة، بلا سبب غير أن سعاد تحب سعيد.
وقتها كنت فى الثانوية كنت لا أحب الرياضيات، وكان سعيد يشجع فرقة شارعنا، شاهدت المشاحنات والمشاكل والغيرة والحقد الذى لم ينزع من قلوب أبناء الشارع، الكل ينظر لحب سعاد لسعيد رغم أن سعيد لم يترك دكان تصليح البوابير، سعيد لم يطمع ولم يحقد على أموال أحد، ولا على مناصب أحد من أبناء الشارع، كل ما كان يشغله حب سعاد، خيمة حبه لم تجعل لنفسه أى حظ، غير حظ الحب بينه وبين سعاد، كان يرفع عينيه وقت نظرة سعاد له، يذكرها وهى غائبة أكثر من أى حضور، لم يغفل عن حبها، وغفل عما سواها، لم يزنها بشىء، كل من يريد نزع شىء من بين يد سعيد، يتركه له أو لهم أو لكل من يريد منه شيئاً، إلا قلب سعاد، حبها سعادته، حبها سلطانه، حبها نور وأنس وجمال.
انتقل جسد سعيد، فكان ذكر الشارع الدائم، سعيد أصبح أيقونة السعادة، كل من يريد سلطان الحب يلتمسه من نظرة سعاد، تبتسم للدكان، لم تترك مكان سعيد، لم يشغلها الوظائف ولا أولادهما، لم يشغلها عن سعيد حتى موته، ولم تدرك إلا أنفاسه ونوره الباقى، الفجر صبح الحبايب، أول حب كانت حنان، لم أصارح به أحداً قبل سعاد، قبلة القلوب، ودكان السعادة، سعاد عندما أحبت سعيد، خلقت لنا السعادة.